إن الإنسان من حيث هو إنسان كائن مفكر (Par définition)، فضولي، يحب أن يدرك كل شيء حوله؛ كائن متسائل. هذا الحماس الفكري والعطش المعرفي سيقوده إلى التساؤل حول الظواهر الطبيعية. لم يسقط المطر؟ لم السماء زرقاء؟ ما تلك الأضواء التي نراها ليلاً في السماء؟ هذه التساؤلات وأخرى وجودية ستقود الإنسان إلى فجوة معرفية باعتبار قلة آليات الإنسان القديم المعرفية. ومن هنا بروز الضرورة الوجودية لدين يصل الأرض بالسماء -السماء كمفهوم ما ورائي، ميتافيزيقي- (هذه الضرورة قد تكون مرحلية كما قد لا تكون، لست بصدد مناقشة هذا الإشكال). ومن هنا الأهمية التاريخية للدين ! العلم كما نتعارف عليه اليوم ظهر عند العرب (الذين استندوا على ومضات قدامى أثينا)، ثم مر من مرحلة ركود لينطلق من جديد في أوربا بطريقة اندفاعية غيرت مفاهيم كانت سائدة لقرون ولازالت تغير وستغير من مفاهيمنا إلى أن يشاء الله. وهنا موقع النزاع مع الدين! غاليلي أحد أولئكم الذين عانوا من ويلات هذا الصراع، فاعتقاده بدوران الأرض وبلا مركزيتها على مستوى الكون، ثم برهنته العلمية على ذلك ستجعل الكنيسة تفتح عليه باب الغضب، باعتبار أن ما كان يروج له غاليلي على أنه حقائق علمية، يتعارض مع ما في الكتاب المقدس. سينمو هذا النزاع وسيتطور، ولن يخرج غير الدين منهزما، بالنظر إلى كونه يستند على الإيمان الأعمى، بينما يستند العلم على معطيات مادية إنكارها ضرب من ضروب الجنون. تطور هذا النزاع أنتج أجيال تقف ما بين العلم والدين، وتحاول تكييف ومطابقة أحدهما مع الآخر. أجيال تفسر لعصرها. بمعنى أنها تكيف فهمها للنص مع حقائق العصر العلمية، ثم إن تجاوز العلم حقيقة ما أو عدل فيها، تعدل قراءة النص وتفهمه بطريقة مختلفة. عدنان إبراهيم أحد هؤلاء! في خطبته الأخيرة؛ "عبقرية الإلحاد : شيء من لاشيء"، تحدث عدنان إبراهيم عن "انتحار الملاحدة العقلي" -كما يبدو له- ثم عرج يروي معطيات علمية دقيقة استخلص من دقتها وجود صانع ذكي وحكيم بالنظر إلى قوانين الكون المحكمة. هذا الدليل الذي يعرف في الفلسفة بالتصميم الذكي أو الأي-دي (Intelligent Design) من بين ما استهجنه عدنان إبراهيم وسخر منه، إيمان بعض كبار العلماء (كدوكنز وهوكنغ) بنظريات -عقلا لا تصح- في الوقت نفسه الذي أنكروا فيه حقيقة أن هناك صانع ذكي. الحقيقة التي يقبلها العقل ببساطة وسلاسة. ثم عرج يتكلم عن غباء العلماء الطبيعيين الفلسفي، وبأنهم يفتقرون لأبسط أسس وأدوات المنطق. تحدث عدنان إبراهيم أيضا عن مغالطة "الإله العلمي" التي يمارسها بعض الملاحدة من العلماء في حين أنهم يستنكرون ويسخرون من مغالطة "إله الفجوات" التي يمارسها المؤمنون (كلامه هنا جاء في معرض الحديث عن ريتشارد دوكنز عالم البيولوجيا البريطاني). بينما تكلم في أكثر من ثلثي الخطبة تقريبا عن خصائص الماء الكيميائية ومناسبته الدقيقة جداً للحياة، محاولاً ما أمكن تعضيد حجة التصميم الذكي ! كخطوة منهجية سأقوم بمناقشة هذه الخطبة انطلاقا من محاور ثلاث : 1- مصداقية الدليل العقلي (المعقولية) ومجالات تداخله مع العلم 2- مغالطة مغالطة الإله العلمي -التكرار متعمد- 3- من الهروب من "الإعجاز العلمي في القرءان " إلى الوقوع فيه مصداقية الدليل العقلي (المعقولية) ومجالات تداخله مع العلم : كلما تكلم رجل دين أو مدافع عن الإيمان في قضية وجود الله تحدث عن الدليل العقلي (المنطقي)، واعتبره دليل يصادق على أطروحة المؤمنين في أن هناك صانع ذكي خلق هذا الكون. باختصار شديد هذا الدليل يقوم بالأساس على الاستناد على مقدمات أولية يعتبرها منطقية (أي معقولة)، ثم يبني عليها ليستنتج بعد التسلسل المنطقي غايته. مثال 1: الموجودات من حيث طبيعتها تنقسم إلى قسمين : ممكن الوجود وواجب الوجود. ممكن الوجود هو كل موجود وجوده يحتاج لواجد، بينما واجب الوجود وجوده مستقل لا يحتاج لغير ذاته لكي يوجد. تسلسل ممكنات الوجود إلى ما لا نهاية مستحيل، وعليه من الضروري وجود واجب وجود مسؤول عن وجود كل ممكنات الوجود التي نعرفها. واجب الوجود هو الله ! مثال 2 : الموجودات جميعها متحركة، وكل محرك يحتاج لمحرك لكي يتحرك، تسلسل المحركات التي تحتاج لمحرك إلى ما لا نهاية مستحيل، وعليه ضروري أن يكون هناك محرك أول هو المسؤول عن حركة الموجودات التي نعرفها. المحرك الأول هو الله ! مثال 3 : كل الموجودات من حيث طبيعتها تحتاج لعلة لكي توجد، تسلسل العلات إلى ما لا نهاية مستحيل، وعليه من الضروري أن تكون هناك علة أولى مسؤولة عن كل ما نراه اليوم. العلة الأولى هي الله ! هذه الأدلة الثلاث يعرفها كل مهتم بدراسة الفلسفة ويحفظها طلبة الفلسفة عن ظهر قلب، وقد صاغها قدماء الفلاسفة ليبرهنوا بها على وجود الله. وسأقف هنا وقفة متسائل عن مدى مصداقية هذه الأدلة الثلاث. الدليل العقلي هنا يستند على ما خبره عقل المبرهن من تجارب من خلال الملاحظ ومن ثم القياس وعقد المقارنات ثم استخلاص النتائج. ولك قارئي الكريم أن تستنج من هنا أن المناطقة لا يقيمون وزنا لمشروطية العقل. لنتخيل الآن رجل يعيش في القرون الوسطى، ثم فلنصعد إليه في السلم التاريخي لنخبره بإمكانية مثلا تحادث شخصين أحدها في المغرب والآخر في المشرق في الآن ذاته، مع إمكانية رؤية أحدهما الآخر. الرجل هنا قد يجن وليس من المستبعد أن يرمينا بالهرطقة وترديد الحماقات، لأن عقله مشروط بما يعرفه وبما خبره من تجارب وكل ما يخرج عن هذا النطاق يعتبر بالنسبة إليه محال عقلاً ! ما أريده من خلال المثال السالف ذكره هو الوقوف على مصداقية هذه الاستحالة العقلية وهنا أتوجه بالسؤال لأصدقائي المناطقة عن مدى حجة هذه الاستحالة العقلية وحاكميتها على "الحقيقة" ! فإن قالوا هي حاكمة اعتبروا دليل الرجل في المثال السابق صحيح واتفقوا معه في ما ذهب إليه ولا أظنهم سيذهبون إلى ما ذهب إليه. وإن قالوا لا فقد أنكروا مصداقية الدليل العقلي بالأساس لأنه يستند على المعقولية ويعتمد عليها في إثبات ما هو بصدده. سأضيف هنا مثال آخر للتوضيح أكثر قبل أن أشرع في مناقشة المحور الثاني من هذا المقال. كان يحدث معي -وقد حدث حتما مع الجميع- أني كنت لا أستطيع استيعاب مفهوم نسبية الزمان وعلاقته بسرعة الضوء وأجد ذلك مستحيل عقلاً، لكن ما كان يشجعني على الاستمرار في محاولة استيعاب هذا الطرح، هو المصداقية العلمية للنظرية، ومع توالي المحاولات وجدت في نفسي قدرة تنمو على استيعاب هذا المفهوم بالنظر في مفاهيم علمية أخرى ومحاولة الربط فيما بينها. هذا إن دل على شيء فإنما يدل على نسبية المنطق وخضوعه لمشروطيات أكبر منه، ذلك أني إذ كنت غير محيطاً بحقائق علمية تعذر علي استيعاب حقيقة كون الزمان نسبي، ثم وأنا أحاول الإحاطة بها، توضح عندي المعنى أكثر، وزالت سحابة اللامعقولية عندي تدريجياً، وهذا يعني كما سبق وقلت بأن عقلي مشروط بما خبره كمعطيات "لقن" أنها منطقية ! لست هنا أدعو إلى التخلي عن المنطق، بل أنادي بإدراك ضعفه –أو قل نسببته- وعدم التشدق به كدليل لا يعلى عليه، وهنا أستحضر قول الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران كون استعمال المنطق ضروري لتتضح الأمور، بينما تجاوزه ضروري لكي نكون أذكياء. الاستناد إلى المنطق ضروري للتحقق، بينما تجاوزه ضروري للوصول إلى الحقيقة. (L'usage de la logique est nécessaire à l'intelligibilité, le dépassement de la logique est nécessaire à l'intelligence. La référence à la logique est nécessaire à la vérification. Le dépassement de la logique est nécessaire à la vérité( وعليه كل ما صاغه الفلاسفة من دلائل على وجود الله تسقط تباعاً الواحدة تلوى الأخرى، ولا حجية لها بالنظر إلى كل ما ذكرناه، فمن ضمن لنا مثلا أن كل متحرك يحتاج بالضرورة إلى محرك؟ هل نظرنا في جميع المتحركات و وجدناها تحتاج لمحركات جميعها ؟ ما أدرانا أن نكون كون في أكوان يخضع كل كون فيه إلى قوانينه الخاصة ؟ إن كل ما ذكره عدنان إبراهيم في خطبته عن انتحار الملاحدة من العلماء العقلي لا قيمة له، وهو لعمري تخبط في مياه عميقة وتهافت ماكر لم أرى له مثيل. العلماء يا دكتور عدنان يؤمنون بنظريات علمية، أي يؤمنون بفرضيات علمية أكدتها مجموعة من الدلائل المادية، ولا يجوز بتاتاً وإطلاقاً محاولة إنكارها اعتماداً على المنهج المنطقي الذي عرف به القدماء. نعترف هنا بقصور العلم وعدم قدرته على الإحاطة بجميع ما هو بصدده، لكن لا يجوز استغلال هذه الفجوات لمحاولة تمرير أفكار مغلوطة .. نعم إنك تستعمل كما غيرك مغالطة إله الفجوات مهما حاولت إنكار ذلك ! مغالطة مغالطة الإله العلمي : ذكر الدكتور عدنان هذه المغالطة –هو من سماها بمغالطة الإله العلمي- في معرض الحديث عن عالم الأحياء البريطاني ريتشارد دوكنز، ومجمل ما ذهب إليه أن العلماء إذ ينكرون على المؤمنين استعمال مغالطة إله الفجوات يستخدمون مغالطة الإله العلمي ! مغالطة إله الفجوات يقصد بها صديقي القارئ تلك الطريقة التي يعتمدها المؤمنين في توريط غير المؤمنين بالسؤال عن ما قبل الخلية الأولى ليستندوا بعد ذلك على عجزهم عن الإجابة بالقول أن خالق الخلية الأولى إذاً هو الله ! إن العلماء إذ ينكرون على المؤمنين هذه الطريقة في البرهنة يخبروننا بأن عجزهم عن إيجاد جواب لا يعني بالضرورة وجود خالق أعطى هذه الإنطلاقة، قد يتطور العلم لكي يجيب عن هذا السؤال. هذه الإجابة بالضبط هي التي يسميها الدكتور عدنان بمغالطة الإله العلمي، أي أنه إذا كنا كمؤمنين نستغل الفجوة لتمرير حقيقة أن هناك صانع، يستغلها العلماء أيضا لتمرير حقيقة أن العلم سيتطور ليكشف لنا الجواب، حيث أنهم وضعوا العلم مكان الإله الصانع ومن هنا تسميتها بمغالطة الإله العلمي. عزيزي دكتور عدنان، إن العلماء إذا ما قالوا بأن العلم قد يكشف لنا في المستقبل القريب حقيقة الخلية الأولى فهم واعون تماماً بتطوره وبخضوعه لتراكمات علمية تغير فيه باستمرار. قولهم بأن العلم سيكشف لنا في المستقبل هذه الحقيقة يعني أن نظرتنا للكون ستتطور ولن تبقى على ما هي عليه الآن، قد نعدل في النظرية وقد يتم تهديمها، كما قد تكون هذه الخلية نقطة في محيط أوسع سنكتشفه في المستقبل، إنه الذكاء الذي ذكره إدغار موران في ما سبق. بينما مغالطة إله الفجوات تحاول إثبات افتراض ماورائي بمجرد عجزنا عن إيجاد جواب مرحلي قد يميط العلم اللثام عنه في المستقبل ! هذا الخلط الرهيب الذي يعاني منه الدكتور عدنان إبراهيم هو ما دفعني إلى تسمية محاولته إثبات المغالطة بالمغالطة مقتديا في ذلك بصنيع ابن رشد الفيلسوف في الرد على الإمام الغزالي (تهافت التهافت في مقابل تهافت الفلاسفة). من الهروب من "الإعجاز العلمي في القرءان" إلى الوقوع فيه الذي نعرفه عن الدكتور عدنان هو أنه يعتبر نفسه لا ينتمي لمدرسة الإعجاز العلمي التي برزت مؤخراً مع رواد من أمثال هارون يحيى وزغلول النجار وعلي منصور الكيالي وآخرون، مؤكداً على موقفه من القرءان الكريم على أنه كتاب هداية، ولا علاقة له بالعلم ولا بالفلسفة والانطولوجيا. لكنه ما فتئ يذكر "بإشارات علمية" في القرءان الكريم ويدخلها ضمنياً في باب الإعجاز وإن كان في كل مرة ينكر المصطلح، كأن مشكلته مع المصطلح فقط ! أنا أعتقد بأن الدكتور عدنان إبراهيم يتبنى كما الآخرين أطروحة "الإعجاز العلمي في القرءان الكريم" لكن بدرجة أقل بكثير عن من يعتبرون رواداً في هذا المجال. من لا يؤمن بأن القرءان كتاب علم فليضعه جانباً إذا ما تعلق الأمر بالعلم انتهى ! لا داعي في كل مرة أن تتكلم عن إشارات علمية سابقة لزمانها في القرءان الكريم. خلاصة : إن العلم في كل مرة يذكرنا بقزمتينا أمام هذا الكون الشاسع. هنا في هذا الكون تختفي الحقيقة، ويصعب الوصول إليها بالنظر إلى وعورة الطريق وتعقيداته. نحن نعيش بين أبعاد الزمان والمكان، الطول والعرض والارتفاع. هذه الأبعاد تشكل عائقاً يعيقنا عن إدراك هذا الكون كما هو. إننا لا ندري ونحن نحاول فهم واستيعاب ما حولنا أننا إنما نحاول فهم الكون كما نراه وليس كما هو، إدعاء الفهم نرجسية تعيقنا عن الفهم الأكثر، وحده الدليل العلمي من يقودنا بسلاسة إلى الفهم أكثر، قد لا نفهم، وقد تبوء كل محاولتنا بالفشل، لكن هذا البحث المضني هو ما يعطي لحياتنا كبشر، ككائنات متسائلة معنى ! فهل تعتقد عزيزي القارئ أننا فعلاً سنصل إلى إجابات نهائية تكشف لنا خبايا هذا الكون؟ أم أننا لن نصل إلى شيء ولن نستطيع تجاوز هذه القزمية ؟ إضافة 1 : في الدقيقة 01:22:00 تحدث الدكتور عدنان عن ستيفن هوكنغ وما حكاه في برنامج وثائقي. وخلاصة قوله أنه تحدث في بداية الوثائقي (الكلام هنا عن هوكنغ) بأن القدامى كانوا يعتقدون بأن المعاقين من أمثاله مصابين بلعنة الألهة، في حين أن العلم اليوم فسر هذه الظاهرة بطريقة هي أبعد ما تكون عن الخرافات، وعليه فالناس المعاقين من أمثاله ليس لهم مشكلة مع إله مسؤول عن إعاقتهم والسؤال عنه أصلا سخيف و لا معنى له، ليكرر هذه الفكرة في نهاية الوثائقي أيضاً. يعلق الدكتور عدنان إبراهيم هنا ساخراً : "أعجبتني براءته، هو بريء جداً كونه يحكي هذا في البداية والنهاية، ويسلم رقبته لأمثالنا، لأي فيلسوف، لأي محلل نفسي" . وهذا يعني بأن الرجل يعتبر نفسه محللاً نفسياً أو فيلسوفاً يكشف ما وراء الأفكار والعقد النفسية التي أنتجتها. عدنان هنا وهو يحاول إسقاط هوكنغ سقط ! ملحوظة 1 : للدكتور عدنان كل الحب والتقدير ولست أنكر فضله علي شخصياً في أنه كان من بين من ألهمني بالبحث وحب المعرفة. لكن لا أحد يسلم من النقد ! ملحوظة 2 : كل ما قلته هنا هو نقاش مجرد لمجموعة من الأفكار، بمعنى أنني لا أدافع بالضرورة عن ما ذهب إليه الملاحدة من العلماء، وإنما أنا بصدد مناقشة الحجج والمنهج المعتمد في الرد عليهم كما هو من دون أن أقيد بالغاية من الرد عليهم.