صار أحمد الزكاف في الخامسة والسبعين من عمره، وما زال يقصد محله في طنجة القديمة لتجديل "الرافيا" وصنع الأحذية والحقائب. كانت هذه مهنته وصارت هوايته لطنجة القديمة تاريخ قديم. تحتضن هذه المدينة حكايات كثيرة تتعلّق بالبشر والحجر. داخل سور طنجة عجوزان يمضيان نهارهما مع الإبرة لتجديل "الرافيا". يصنعان الأحذية الرجالية والنسائية للسياح والسكان المحليين بأشكال وألوان مختلفة. يقول أحمد الزكاف (73 عاماً) إن هذه المهنة تحتاج إلى "قناعة وصبر". كان قد بدأ العمل فيها عام 1965، علماً أنه حاصل على شهادة فيها من مدينة فاس. وما زالت صورته الشخصية الموضوعة على يمين الشهادة معلقة خلفه في محله الصغير في طنجة العتيقة. يفتخر الزكاف بمهنته. لم يملّ يوماً منها، وقد صارت جزءاً من حياته. يقول إنه تعلّم الصنعة عام 1955 في رياض السلطان في طنجة، على يد معلّم جاء من فاس. علّمه وثلاثة آخرين لم يبق منهم أحد، ثم حصل على دبلومين من تطوانوفاس التي كانت تعد الأفضل في هذه الحرفة، وعلى شهادة أحسن صانع في طنجة. يذكر أن "الرافيا" جاءت مع الاستعمار الفرنسي للبلاد، وكان الفرنسيون يمضون أوقات فراغهم في صناعة السلال والقبعات من شرائطها. ويقال إن الإسبان الذين عاشوا أيضاً في ظل الاستعمار في شمال المغرب قد نقلوا هذه الصناعة التقليدية إلى قبائل مدغشقر وبعض شعوب بلدان المحيط الهادئ وسواحل الأطلسي. احترف الزكاف جدل "الرافيا". حين يعمل، يبدو وكأنه يغزل الصوف بعدما احترف أيضاً صناعة "البلغة" المغربية، والصندل "الرومي" أي الغربيّ، وطوّر أشكالاً جديدة، حتى أنك تجد في خزانته الصغيرة التي يضعها عند عتبة محلّه، أحذية رجالية ونسائية بخيوط ومن دون خيوط، بالإضافة إلى "الشنكلات" وهي عبارة عن حذاء مفتوح من الأمام، و"ايسابور" وهو حذاء مغلق من الأمام، والذي يصل سعره إلى نحو 50 دولاراً. عاش من هذه المهنة "بخير وسلام" على حدّ تعبيره، وكان هناك طلب كبير عليها. أما اليوم، ف "الرافيا" صديقة الوقت. يمضي يومه بالجدل للتسلية. في الوقت الحالي، يتسلى أحمد الزكاف بهذه الهواية. يمضي يومه بهدوء تام وإتقان وإبداع. ويستغرق صنع الحذاء نحو ثلاثة أيام، وذلك بحسب الطلب. يأتي صباحاً ثم يذهب لتناول الغداء والاستراحة، قبل أن يعود لاستكمال التصميم. هذا الحذاء من شأنه أن يقضي على حساسية وعرق القدمين. يضيف: "يرتدي الأطباء هذا الحذاء للقضاء على الحساسية وآلام القدم". يواصل وصديقه الإدريسي العمل. يواصلان التحدّي على الرغم من تقدّم العمر. من يعمل في صنعة مختلفة في طنجة؟ لا أحد. يقول الزكاف. يضيف: "حاولت تعليمها لأولادي وشبان آخرين، المهنة، لكنهم يريدون السفر إلى الضفة الأخرى. لا يتمتعون بالصبر والقناعة". حين يعمل، يفضل الضوء الخافت. يقول إن هذه الصنعة قد تنقرض مع انقراض الطلب عليها. وهي ليست متاحة للجميع، وخصوصاً السكان المحليين بسبب ثمنها المرتفع. يتابع إن "السياح لا يمرّون أمام الدكان الصغير يومياً. لكن إبداع أصحابها سيرافق الناس أينما حلّوا. ويلفت إلى أن هذا إبداع نادر وفريد يجعل الأقدام تبدو جميلة. يصنع الأحذية بمهارة ودقة. يضيف أن بعض الأدوات التي يستخدمها، مثل المقص والقوما واللاصق واللقاط والإبرة وهيئة قدم صلبة، تمكنه من صنع الحذاء وفق المقاس المطلوب، بالإضافة إلى الجلد الذي يبطن من خلاله الحذاء من الداخل والخارج. هذه الصنعة فرضت على الزكاف الاحتفاظ بمحله في أحد محلات المدينة العتيقة. يقول: "في المدينةالجديدة، لا أحد يهتم بالأحذية. لذلك، من الأفضل أن أبقى في مكاني". وبسبب حرصه على العمل، نسي أن يعاني من الشلل في يده وقدمه اليسرى منذ خمسة عشر عاماً. يومها، أُصيب بجلطة في دماغه عطلت الجهة اليسرى بالكامل. على الرغم من ذلك، استمّر في عمله في جدل "الرافيا" وأبدع. يقول: "فكّرت طويلاً كيف يمكنني غرز الإبرة. صممت على إيجاد حل إلى أن وجدته". كأن العمل ليس مهماً في حد ذاته، بل الروح التي يمنحها الإنسان للعمل. قديماً، مرّت على محله الأميركية الثرية باربرا هتن التي عاشت في طنجة، ويذكر أنها اشترت أحذية وحقائب. قصده أيضاً الفرنسي بيدرو، الذي كان يملك معامل في الخارج، وعاش في دار زيرو في قصبة طنجة، ولطالما أحب أحذية "الرافيا". وتبقى هذه المهنة هواية يحبها، بعدما أتم الخامسة والسبعين من عمره. ويقول بلهجته الطنجاوية "نحن دائماً مريحين. نفتح المحل مرة مرة، أجلس وأخدم وبصلي وبمشي بحالي وقت الغدا، حتى ما يبقى الواحد جالس في الدار". في طفولته، أحب كرة القدم، وكان "مبليّاً بها" على حدّ قوله. أما اليوم، فصار يمضي وقته بهدوء. (*) صحفية فلسطينية مقيمة بطنجة