منذ سنوات طويلة، افتتح المديني محل عطور في طنجة القديمة، وقد ورثه ولداه، وحافظا على طابعه. وما زالا يصنعان العطور الطبيعية حتى اليوم في درب سبو، يمكن أن تتخيّل نفسك أحد الباشوات أو تتخيلين نفسك إحدى النساء المخمليات اللواتي يرتدين القبعات الكلاسيكية والتنانير القصيرة. هناك، يمكن شراء عطر برائحة الياسمين أو النارنج من عند المديني، أشهر صانع عطور في المدينة. هذا المشهد، بالإضافة إلى مشاهد أخرى، قد تمر في بالك كلما مررت من باب دكان المديني في مدينة طنجة العتيقة. في أوائل القرن التاسع عشر، قدمت عائلة المديني من المدينةالمنورة إلى طنجة. وكان المديني الجد يعمل في خدمة قبر الرسول محمد، إلى أن جاء سلطان المغرب عبد الحفيظ بن الحسن الأول، فالتقيا، وتزوج السلطان الذي حكم المغرب أربع سنوات من شقيقة المديني، وانتقلت العائلة آنذاك إلى طنجة "العالية"، كما يقول أهلها. جاء المديني بالعطور. روائح من الورد الدمشقي والياسمين والبرتقال والزعتر والقرفة وغيرها، يضعها في قنانٍ زجاجية. في درب "سبو" الضيق يقع محل المديني القديم. سرعان ما ينسى الزائر ضيق المكان إذا ما شم رائحة طيبة. وإذا كانت الأسعار في البداية حكراً على الأجانب الأثرياء الذين عاشوا في طنجة خلال زمن الاستعمار، أو الأثرياء أصحاب المدينة الأصليين، فقد صارت اليوم متاحة للجميع. أبو بكر الحريري المديني، يقول إن والده "غادر المدينةالمنورة إلى طنجة عام 1912، واستقر فيها. أما أنا، فلقد ولدت هنا وورثت صناعة العطور عنه. لدى شقيقي الأكبر سليمان خبرة أكبر وخصوصاً أنني ركزت على متابعة دراستي، فيما أصر والدي على تعليم شقيقي كل شيء عن المهنة قبل أن تندثر. بدوري، تعلمت شيئاً فشيئاً وأصبحت مسؤولاً عن المحل القديم، فيما يدير شقيقي محلات في المدينةالجديدة في البوليفار على سبيل المثال". ألهمته تجربة والده. يقول: "كان أكثر كفاءة منّا. كان أستاذنا الروحي. منه عرفنا العمل بصدق، وقد نجحنا بسبب إخلاصنا للمهنة وحبّنا للزبائن". لم يتغير شيء في المحل القديم سوى أرضيته. حافظ أبو بكر على كل شيء، حتى على اللافتة التي كانت موجودة منذ زمن والده. وتشير هذه اللافتة ذات اللونين الأبيض والأسود إلى عنوان المحل: طريق سبو 29 - طنجة، بالإضافة إلى رقم الهاتف، وقد طبعت عليها أربع صورة صغيرة، اثنتان للمدينة المنورة واثنتان لطنجة. يخبرنا أبو بكر عن صناعة العطور، مع الحفاظ على أسرار المهنة. يقول: "كان والدي يأتي بالمواد الطبيعية مثل الورد الدمشقي من قلعة مكونة ويقطره، وما زلنا نتبع خطواته. ليتكون العطر في الغالب من مواد طبيعية، مع الحفاظ على الطابعين المغربي والعربي". يضيف: "في السابق، كان يمكن للعطار التدخل في اختيارات الناس، لكن اليوم، يعرف الجميع العطر الذي يريدونه". ويرى أبو بكر أن الخبرة مهمة لكن الدراسة تجعل صانع العطور أكثر إبداعاً وقادراً على خلق روائح جديدة. يضيف: "لا بدّ أن تكون لصانع العطور رؤيته الخاصة، ولا يغفل عن توجهات الزبون. نرى اليوم أن شركات العطور العالمية تدرس رغبات الزبائن وتعمل على إرضائهم. يتوجب على الصانع أن يكون ملماً بهذا الجانب"، لافتاً إلى أنه "يجب تعلم المهنة من المتخصصين لأن كتب تركيب العطور لا تقدم سوى نظريات". تعلم أبو بكر من مهنته الفرح. يقول: "عندما يفرح الناس بالعطر أفرح معهم". يضيف: "تمنح العطور شعوراً بالسعادة في المناسبات الدينية والاجتماعية. فمن عادة الإنسان أن يرش العطر لإسعاد نفسه والتهيؤ لمناسبة معينة". أكثر من ذلك، يرى أن "العطر يمنح صاحبه طاقة إيجابية". في هذه اللحظة، يبدو سعيداً جداً لأنه اختار العمل في هذه المهنة على مدى السنوات الماضية". يومياً، يقابل أبو بكر أناساً من جنسيات مختلفة. يأتي إليه مغاربة وأجانب، وخصوصاً السياح. ويرى المديني أن اختلاف الثقافات بين الزبائن ينعكس على اختيار العطور. يقول: "كان الناس يثقون بالعطار، ويثقون بما قد يختاره لهم. أما اليوم، فيختار الزبون العطر الذي يريده". سكن المديني في المدينة في بدايات القرن التاسع عشر. عايش انتكاساتها ونهضتها، وقد استقطبت الكثير من الأجانب والمشاهير، كفريق البيتلز وباربرا هيتن وباول بولز. وكانت باربرا تشتري العطور من المديني، بالإضافة إلى بعض الأمراء والأميرات. يقول المديني: "الناس تحب العطور. وهناك دائماً علاقة معها". وهكذا، كلّما مررت في درب "سبو"، يمكنك شمّ عطور المديني والتمتع بها قبل أن تدخل المحل وتختار ما تريد. (*) صحفية فلسطينية مقيمة بطنجة