وصال الشيخ* (صور زكرياء العشيري): خلال عام 1926، صنع فرنسيون آلة حاسبة كتب عليها "مايد إن تانجير"، أي صنعت في طنجة. وقبل خمسة وعشرين عاماً، حصل المواطن يونس الشيخ علي، المولود عام 1863، عليها، قبل أن يكتشف أنه يهوى جمع الوثائق والمخطوطات والمقتنيات. "من ليس له ذاكرة، ليس له هوية"، هكذا يختصر الشيخ علي عمله وهوايته التي تعتمد على الشراء فقط. يحب أيضاً قراءة كتب التاريخ، ليعرف أكثر ما عاشته طنجة. يقول: "للمدينة تاريخ عريق. فيها إثنيات وأعراق وجنسيات مختلفة. الوثائق التي أملكها تعكس صورة عن تاريخ المدينة، بالإضافة إلى نظامها الاقتصادي والسياسي والعسكري والفنّي والأدبي". يحتفظ بالآلة الحاسبة وخمسمائة وثيقة تاريخية وعدد من المخطوطات والملابس. كان قد وجدها لدى مغاربة وآخرين. اختار بعض هذه المقتنيات لتزيين مقهاه "لحظات طنجة الثقافي". أهمّ الوثائق السياسية التي يملكها الشيخ علي، والتي كانت قد لعبت دوراً في السياسات العالمية، هي وثيقة استقلال الهند عام 1947. في ذلك الوقت، احتضنت طنجة اجتماعاً بين الحكومة البريطانية والهندوس لصياغة الوثيقة. في حوزته أيضاً وثيقة للدبلوماسي البريطاني جورج تلموندهاي، الذي أقام في طنجة في عهد السلطان الحسن الأول خلال عام 1878، وكانت له علاقة قوية معه. ويملك وثيقة عن الحرب الأهلية الإسبانية خلال عام 1936، وأخرى حول التصفية الجسدية للمعارضين أو المناصرين للفرنكفونية في الداخل. من الناحية العسكرية والدبلوماسية، يملك الشيخ علي وثيقة للعسكري هاري ماكلين أو "الحرّاب" الذي عمل مع الجيش البريطاني في جبل طارق، وأشرف على تدريب القوات المسلحة المغربية بطلب من السلطان الحسن الأول، بالإضافة إلى بعض مقتنياته الشخصية. اجتماعياً، يصور جزء من الوثائق شكل المعاملات والأحكام وطبيعة الأعمال للجاليات الأجنبية التي عاشت واستثمرت في طنجة، مثل الجالية الأميركية والإسبانية والفرنسية والهولندية والنمسوية والألمانية واليهودية. بعض الوثائق تعود لعائلات يهودية مثل بن دريهم، بن ذراعو، بن شيمول، ودوليدانو. يبدو الشيخ علي فخوراً بهذه الممتلكات، وكأن المدينة أتاحت له فرصاً لم تمنحها لآخرين. ضمن مجموعته، يمكن أن تجد أول دبلوم حصل عليه يهودي يدعى أبراهم مدينا. يملك أيضاً مقتنيات تخص عائلة تايلور الإنجليزية الثرية التي صنعت أول مشروب غازي في إفريقيا، وقد توفيت في طنجة. وفي ما يتعلق بالثقافة المغربية، يقول الشيخ علي: "أملك مخطوطات وملابس وأشياء أخرى تدل على تمسك المغاربة بعاداتهم وتقاليدهم خلال عهد الاستعمار. هناك أحزمة تعود لمائة وخمسين عاماً وحلي وغيرها". الاحتكاك بالثقافات المختلفة أنتج ثقافة متنوعة، ما أدى إلى تحول كبير في اللباس والطعام والهندسة المعمارية وغيرها، حتى إن هناك أحياء خاصة تدل على مختلف الشعوب التي عاشت في طنجة، مثل الحي الإسباني والحي الإيطالي وغيرها. يقول إن هذه الهواية تتطلب أن تجيد اللعب في المزاد وتملك المال. "إذا توفر المال اشتريت، وإن لم يتوفر عليك البحث عن سبل أخرى مثل التنقيب في أماكن مهملة. وإن لم تجد شيئاً، لا بأس أن تخرج سعيداً". ويشير إلى أن البيع يحصل بشكل جماعي، ويشارك فيه مغاربة وأجانب، أو بجهد شخصي، أو عن طريق الصدفة. يضيف أن هوايته هذه تعدّ مشوّقة، هو الذي يعمل على البحث عما ينقصه من وثائق. يقول الشيخ علي: "سعيت وراء وثيقة كانت موجودة في نيويورك، وقد أرسلت إلى طنجة في وقت من الأوقات، ووقع عليها أحد عشر سفيراً مهنئين طنجة برفع الوصاية عنها وعودتها إلى عهدة الحكومة المغربية". لا يعاني من أي مضايقات، وإنما تكمن المشكلة في زيادة عدد الذين يشاركونه هذه الهواية. يتابع الشيخ علي أن "المدينة تسكن في داخلي". لهذا السبب، لا يفكر أبداً في بيع أي قطعة، وقد نجح في تنظيم ثلاثة معارض. ومن خلال ما يملكه من وثائق، يساعد الشيخ علي الطلاب والباحثين لإنجاز دراساتهم وأبحاثهم. ويطمح أن تعرض مجموعاته في متحف أو معرض مفتوح على الدوام أمام السياح والمواطنين في حال حصل على مقرّ تابع للجماعة الحضرية، وذلك في إطار المساهمة بحماية المخزون التاريخي والتراثي لطنجة. في مقهى "لحظات طنجة الثقافي"، قابلنا الشيخ علي. لبرهة، تشعر وكأنّك تعيش في زمن آخر. ربما تتذوق المشروب الغازي الذي صنعه اليهودي دايفيد كوهن عام 1930، وأطلق عليه اسم "أطلس لتشين". أو ترى فخاراً كان يملكه الكاتب الأميركي بول بولز، وأخرى تعود للعهد الروماني. هذا بعض مما وضعه الشيخ علي كي يأنس الجميع بعبق "طنجيس" القديمة وطنجة الحديثة. *صحفية فلسطينية بجريدة "العربي الجديد"، مقيمة في طنجة