إذا كانت "الدستورانية الكلاسيكية" تأسست على محددات تأخذ ب"معطى الكتابة كضمانة لاحترام مقتضيات الوثيقة الدستورية"، و تنظر إلى الوثيقة الدستورية باعتبارها فقط ''بنية فوقية شكلية'' تقدم لتبرير سلطة ''الأوليغارشية الحاكمة''، فانه مع بداية القرن العشرين ستتآكل هذه المحددات بفعل وجود فجوة بين النص القاعدة وحالات سياسية يصعب على الوثيقة الدستورية تأطيرها. لذلك ستبرز فكرة جديدة تعتبر مضمون النص الدستوري "عقدا مفتوحا للخلق و التشكيل المستمر، و نصا في طور البناء عبر آلية '' التأويل الدستوري '' التي ستجعل الوثيقة الدستورية تنفتح على التطورات التي يعرفها محيط اشتغالها. و هكذا فان مضمون النص الدستوري انتقل عبر '' الموجات الدستورية الحديثة ''، من سؤال المؤسسات، حيث هاجس ضمان التعبير عن الإرادة العامة، '' إلى فكرة تحقيق دولة القانون. إن هذا ''التحول العميق'' الذي حدث في بنية النص الدستوري و الذي جاء '' كنتيجة لحركة دسترة الحقوق و الحريات''، ما هو إلا '' صورة من التطور الذي طرأ على الفقه الدستوري في هذه المرحلة التي أسست لظهور ما يعرف بالدستورانية الحديثة. في هذا السياق، سارت جميع الدساتير الحديثة في اتجاه تضمين الحقوق و الحريات في صلبها، و ذلك من خلال أسلوبين : أسلوب مادي ( أو شكلي ) و الذي يقوم على تضمين هذه الحقوق و الحريات داخل الوثيقة الدستورية نفسها، أو من خلال أسلوب معياري: يقوم على إضفاء "" قيم دستورية " على مجموعة من المفاهيم و المبادئ العامة. و بالتالي تشكيل ما يسمى في الفقه الدستوري ب'' الكتلة الدستورية . قراءة في الأنموذج المغربي: اعتبر القانون بعد إصدار الأمر بتنفيذه، و لمدة طويلة في'' التجربة المغربية ''، عمل غير قابل للمساس، فكل المؤسسات سوف تخضع للقانون باعتباره، من جهة، تعبيرا عن الإرادة العامة ، و من جهة أخرى، فان سمو المؤسسة الملكية '' جعلت من الرقابة القضائية لا تنسجم مع الخصوصية المغربية من منطلق أن طبيعتها البعدية تثير مجموعة من الإشكالات، من بينها مدى أحقية إعادة النظر في الظهير الملكي الذي يصدر بموجبه القانون البرلماني و '' المزين بالخاتم التشريعي أو الملكي ''. فالملك يراقب دستوريته، ويعد فوق ذلك قاضيا، إضافة إلى المرتبة التي يحتلها الظهير الملكي في النظام القانوني المغربي. اليوم مع الإصلاحات الجديدة، يمكن القول إن متغيرات كبرى باتت تحيط بإشكالية ''دولة القانون''. فمن جهة تقدم دستور 2011 على مستوى التفصيل في بعض مقومات ''دولة القانون''، و من جهة أخرى، تحمل هذه الوثيقة إقرارا بمسألة الضمانات و الآليات الرقابية لتكريس مفهوم ''دولة القانون''. وكنموذج على هذه الضمانات نجد أن الدستور عمل على ترقية المجلس الدستوري إلى ''هيئة قضائية مستقلة'' في شكل ''المحكمة الدستورية''، و التي أصبحت تزاوج بين الرقابة القضائية و السياسية. * · من '' ثقافة القانون '' إلى '' ثقافة الدستور'' إن الدستور'' كحكم أسمى'' و ك''بيت مشترك يعلن عن الحقوق و الحريات التي اجتمع حولها الشعب''، لم يتم اعتباره سوى '' نص ثانوي '' ، و ذلك بعدم إمكانية الرجوع إليه بعد صدور القانون لحيز التنفيذ. فكيف يمكن مراجعة قانون'' مزين بالخاتم الملكي'' حسب الأستاذة نادية البرنوصي. إن تاريخ الثقافة القانونية و الدستورية المغربية قد أسس على تقديس القانون، و الذي اعتبر، و لمدة طويلة عملا غير قابل للمراجعة شأنه في ذلك شأن النموذج الفرنسي قبل مراجعة 2008. في هذا السياق، هدف التوسع الجديد بالأساس إلى جعل المحكمة الدستورية فاعلا مباشرا لحماية حقوق الإنسان و بالتالي، تكريس السمو الدستوري. * · من '' الدستور السياسي '' إلى '' الدستور الاجتماعي'' اليوم، أصبح الوثيقة الجديدة، نتاجا لتوافق يتم بموجبه صك قواعد ممارسة السلطة بين مكونات المجتمع السياسي و بين الدولة و المواطن". حيث مكن المجتمع المدني المغربي من ممارسة حقه في التشريع، وذلك بتقديم الملتمسات التشريعية، و نصه على إحداث هيئات التشاور قصد إشراك مختلف الفاعلين في إعداد السياسات العمومية، كما أعطى للمواطن الحق في تقديم العرائض، بل مكن حتى المغاربة المقيمين في الخارج الحق في المشاركة المؤسسات الاستشارية و هيئات الحكامة الجيدة. ويبقى أهم '' حق دستوري '' كرسه الدستور الجديد، إعطاء الفرد الحق في الدفع بعدم دستورية القوانين ، و بالتالي أصبحت إرادة الضبط بواسطة دستور 2011 تتجاوز لعبة "المؤسسات الدستورية وتطال "السياسات الحقوقية ،" و تقويتها و تعديل العلاقة بين الأغلبية و المعارضة، عبر منح هذه الأخيرة حقوقا و آليات جديدة للعمل و المراقبة. مما ينمي ضرورة تحول الدستور إلى كتاب يومي مواطني". و من هنا فان الإقرار الدستوري للحريات و الحقوق بالنص عليها في صلب الوثيقة الدستورية، من المفترض أن تجعل منها تتمتع ليس فقط "بالصفة الدستورية" بل "بالحماية الدستورية"، بحيث إذا اعتدى المشرع على هذه الحقوق و الحريات_ بأن انتقص منها أو أهدرها من خلال تشريعاته التي يصدرها أو أساء استخدامها فان هذه التشريعات تكوون عرضة للحكم عليها بعدم الدستورية و إذا كان الأمر كذلك فان أثر "الرقابة الدستورية" تمثل الارتكاز الأساسي في حماية هذه الحقوق و الحريات. * الدستور '' وسيلة للمتقاضي ‘‘ Un Moyen pour le justiciable إن اعتماد المشرع الدستوري لأنموذج الرقابة اللاحقة على دستورية القوانين من خلال منح الأفراد الحق في الدفع بعدم الدستورية يشكل نقلة نوعية للتأسيس لقضاء دستوري تتمحور أهدافه حول تحقيق " العدالة الدستورية المواطنة "، حيث يكون المواطن في قلب معادلة تحصين حقوقه وحرياته ويكون فاعلا ومحركا للدعوى على اعتباره هو من يحتك بمختلف التشريعات، بما يترتب عن ذلك من غرس ثقافة مجتمعية تتفاعل مع القضاء الدستوري بشكل إيجابي وأيضا تكريس وعي المواطن بحقوقه ومساهمته في تكريس منظومة تشريعية قويمة خالية من عيوب الدستورية حيث تعمل في اتجاه حماية الحقوق والحريات وليس الاعتداء عليها أو انتهاكها. و يأتي توسيع '' الحقوق المضمونة '' les droits garanties دستوريا، ليمثل فرصة إستراتيجية، لتحديد الأهداف و المبادئ ذات القيمة الدستورية و التي ستشكل من خلال الدينامية الخلاقة للاجتهاد القضائي الدستوري المنتظر من المحكمة الدستورية، موجهات للإنتاج التشريعي لاحترام حقوق و حريات المواطن. وهذا التوجه المستحدث في القضاء الدستوري ينسجم إلى حد كبير مع مناحي العدالة الدستورية المقارنة، التي تبحث دائما على تجويد طرائق الرقابة على دستورية القوانين حيث يكون المواطن هو نقطة الارتكاز وحماية حقوقه محور الرهان، وقد أثبتت التجارب المختلفة المتمسكة بالرقابة المركزية التي تحصر الدفع في مؤسسات رسمية بعينها عدم نجاعتها وعوزها، مخلفة وراءها جملة من المثالب والثغرات، وتأكد من خلال التجريب أن هذه الفوقية في الرقابة على دستورية القوانين آلت إلى مخرجات تشريعية معيبة شكلا ومضمونا خصوصا التشريعات التي تخضع للإحالة الاختيارية والتي تتحكم فيها دوافع سياسية وتوافقية، وبالتالي فتح المجال للمواطنين في الدفع بعدم الدستورية وفق أسس واشتراطات إجرائية عقلانية أضفى على الرقابة على دستورية القوانين دينامية خاصة وقوة دفع نحو تقويم الاعوجاج والانحراف التشريعيين وهي كلها أمور تنصب في صالح الأفراد وترعى حقوقهم. اليوم، و بعد اعتماد آلية للرقابة القضائية اللاحقة، أصبح الدستور المغربي '' وسيلة للمتقاضي '' للدفاع عن حقوقه ضد القانون. و يستتبع أن منح مؤسسات المجتمع المدني، حق مراجعة القضاء الدستوري، من خلال المواطن نفسه، أو الجمعيات والهيئات النقابية والمهنية، يأتي في سياق استعادة الوظيفة المجتمعية للدستور. و هكذا فقد أصبح لجوء المواطنين بطريقة الإدعاء أو الدفع إلى القضاء الدستوري مُعترف به في غالبية البلدان، وحتى في أكثر الدول العربية. إن الدستور المغربي النافذ حاليا، سيصبح من الآن فصاعدا شأنا للمواطنين، بحكم أنهم يستعملونه سلاحا للدفاع ضد تعسفات السلطة و خصوصا تعسفات السلطة السياسية. هذا التوسُّع في وصول المواطنين عن طريق '' آلية الدفع '' إلى القضاء الدستوري، يهدف بالأساس إلى تحديد ملامح ديمقراطية دستورية مواطنة، و جعل المحكمة الدستورية فاعلاً مباشرا في حماية حقوق الإنسان وتكريس سمو الدستور وتنقية التشريعات من عناصر دخيلة لا دستورية، وكذا طرد العناصر الغير الدستورية من خلال دينامية محركها الأفراد. إن هذا التغيير سيمس بالأساس مهنة '' القاضي الدستوري'' الذي كان يطلب منه فقط إلى حدود الدسترة الجديدة ''تطبيق القانون''، حيث سيصبح على القاضي من الآن فصاعدا إصدار أحكام تتعلق بالدستورية، فالقضاة عليهم التصريح بمدى وجود شك جدي حول دستورية هذا القانون أو ذاك، و للقدرة على التصريح بذلك، يجب على القضاة أن يقوموا بمعالجة، و إن كانت سريعة، لدستورية القانون، و هو ما كان ممنوعا إلى حدود دستور 2011. * أستاذ باحث بجامعة عبد المالك السعدي - طنجة