صحيفة التيليغراف – بول منسفيلد (ترجمة محمد سعيد أرباط): في أسفل المدينة، استيقظت في الساعة الخامسة والنصف على صوت المؤذن، وبعد فترة قصيرة أشع قرص الشمس بين الضباب وأضاء المدينة. منازل قديمة وكتلة من البنايات تترامى نازلة نحو الميناء خلف الأزقة الكثيفة والغامضة للحي القديم، إنها طنجة فمرحبا. اخترت قضاء عطلة نهاية الاسبوع في مدينة مغربية، وأنا آمل في تغيير كامل، يا إلهي ! هل يمكن أن يكون هذا المكان المنشود الذي لا يبعد عن لندن إلا بثلاث ساعات عبر الطائرة؟. طنجة مدينة بمزيج غريب، هي مدينة شمال افريقية وأوروبية، معروفة وغامضة في الآن نفسه، لطالما كانت مكانا خاصا بذاته. في النصف الأول من القرن العشرين، كانت طنجة من أكثر الملاذ أناقة في أوروبا بقوانينها الخاصة وإدارتها التي جسدت من طرف تعاملات مالية غامضة وأخلاق مشبوهة، كانت مليئة بنسبة كبيرة من الاجانب المنتشين بوفرة النبيذ والجنس والحشيش. في الخمسينيات كان في طنجة حوالي 60 ألف أجنبي، يمثلون نصف السكان، وعندما جاء الاستقلال سنة 1956، عجلت العديد من الفضائح بانتهاء عهد طنجة المنغمس في الافراط، فعادت المدينة إلى عملها التجاري عبر الميناء بنسمة سكانية وصلت إلى المليون، وسمعة جديدة تتجلى في التهريب والهجرة السرية والحشيش. المدينة القديمة هي المكان الأقدم في طنجة، تحيط بجانب من المدينةالجديدة، وتاريخها يبدأ من القرن 12، والحمقى من الناس يحذرونك من البقاء في المدينة القديمة، والأكثر حمقا ينصحونك بعد وضع قدم فيها. لكنيي في الحقيقة مررت أسفل باب دار البارود ودلفت بفضول إلى عالم أكثر آمانا، بأزقة خافتة الاضاءة، ورجال يجلسون في المقاهي يحتسون كؤوس الشاي المنعنع ويشاهدون التلفاز وهم يتحدثون، ومتسكعون في الدروب يحيونك في آدب، ونساء يلبسون الحجاب يمرون أمامك وهم يمسكون بأطفالهم. الشعور بالرضى استمر في فندق كونتينينتال، هذه المعلمة افتتحت سنة 1865 م، حيطانه بيضاء اللون، ومصارع النوافذ بلون أخضر، وشرفات تطل من عال على الميناء، وفي الداخل غرابة وسحر معا، هناك بيانو كبير وفونوغراف قديم في الاستقبال، وغرفتي في الطابق الاول كانت قليلة الزخارف لكنها نظيفة وأنيقة، ثم بعد ذلك خرجت منطلقا أبحث عن الأكل. كان النادل في شبه غفوة في مقدمة باب مطعم حمادي الذي كان مظلما، وعندما اشتعلت الاضاءة، كان الاحساس أقرب إلى الهلوسة، غرفة فخمة مزينة بالزرابي وديكورات مزخرفة معلقة على الحائط وطاولات من النحاس، ومجموعة من الموسيقيين الاندلسيين بلباسهم التقليدي يجلسون في ركن العرض، حتى الخدم كانوا يلبسون لباسا مميزا، سراويل حمراء وصدريات بلون قرمزي فاقع. لكن تلك الموسيقى لم تروق لي كثيرا، كانوا المغنيون يغنون موسيقى "الجبل" المتعرجة. جلب النادل أكواب من الحريرة وطجين الدجاج مطبوخا بقطع من الليمون في أطباق طينية، وكان هناك أيضا نبيذ ثقيل يدعى "القصر"، ومطعم حمادي هو من المطاعم القليلة التي تقدم الكحول بالمدينة. في الصباح، طنجة تلألأت في شمس الشتاء الباهتة، شاطئ المدينة كان مقفرا، لكن الميناء كان نشيطا بحركة السير والناس. في المدينة القديمة هناك بولفار شاسع يعج بالحركة، وهناك واحدة أو اثنين من الساحات التي تعج بالمقاهي، أحد هذه المقاهي الشهيرة هو مقهى باريس حيث كان جواسيس ألمانيا وأمركا وبريطانيا يلتقون خلال الحرب العالمية الثانية. ويقال أن مدينة الدارالبيضاء تدين لطنجة أكثر من أي مكان آخر. مقهى باريس يقدم قهوة رائعة بالكريم، لكنني لم أطل جلوسي هناك وعدت إلى المدينة القديمة، هنا حيث تغرق في الصخب، عبر الاسواق المزدحمة، المكتضة بالحبوب والخضروات والفواكه. المدينة القديمة لها ايقاع خاص يقودك إلى الاسفل ببطئ ويريك بنفسه الطرق والمنعرجات. في قمة المدينة القديمة تعلو القصبة التي تعصف بها الرياح، هناك حيث يوجد القصر السابق للسلطان وعدد من المباني المهجورة، وفي في الأسفل، تتلاصق المنازل حتى تكاد نوافذها العلوية أن لا تنفتح، ومساجد مزينة بقراميد معقدة الصنع، وفي الازقة الضيقة يوجد مختلف الصناع بمحلاتهم الصغيرة التي تشبه ثقوب في الحائط، ورجال يلبسون الجلاليب فيبدون كرهبان في القرون الوسطى. توقفت للحلاقة عند حلاق قديم تحدث معي بالاسبانية، حلق لي ذقني بموسى الحلاقة، ثم غسل وجهي بمنظف لا أظن أنه جيد، يدعى "سورسير". كل الطرق في المدينة القديمة تؤدي إلى السوق الداخل، الذي كان في فترة ما قبل الاستقلال ملتقى الأجانب ومركز العديد من السلوكات السيئة، في الفترة التي كان هناك أكثر من ماخور في طنجة. جلست في مقهى طنجيس واحتسيت شايا بالنعناع وأنا افكر في ويليام بروز وألن جينسبرغ، وجو أرتون، والأدباء النجوم الاخرون، الذي بنوا شهرتهم التي يفتخرون بها على حساب السكان المحليين المعدمين. بقدر ما تمنيت أن أحتسي جعة بدل الشاي، بقدر ما شعرت أنه من الأفضل لو كنت داخل المدينة القديمة وهي خالية من الخمر وخالية من القوادة وخالية من المخدرات، وتدار من السكان المحليين، ومن أجل أنفسهم، وليس من أجل ملذات السياح. اقترب مني العديد من المحتالين بعدما ظننت أن وجودي لم يثير أحدا، "كيف حالك يا صديقي؟ هل تريد مرشدا؟"، كان المفضل عندي أحدهم يدعى مسالم الذي أدعى أنه تزوج من فتاة انجليزية وعاش في المملكة المتحدة 6 سنوات، فهل أعطيه بعض الدراهم لأعود إلى مقري؟ في الصباح التالي تناولت الفطور في شرفة فندق كونتينينتال، النادل الصغير محمد ابتسم في وجهي مرحبا ثم أشار بيده نحو الشاطئ وهو يقول بالفرنسية " منظر جميل أليس كذلك؟" ثم جلس بجواري ونحن نستمتع بهذا المنظر في صمت، كان هذا سلوك رائعا وقد وجدت منه الكثير في المدينة القديمة على عكس ما يقوله بعض الحمقى، وطبعا كل زائر ووجهة نظره. محمد السوسي مدير فندق كونتينينتال منذ سنة 1975 جلب كتابا قديما للزائرين فعاينت توقيع "ديغاس" و "تشيرشل" والعديد من الكتاب والفنانين الذين مروا بالفندق، ولما رآني أسجل بعض الملاحظات خلال الفطور، سجل اسمي في ذلك الكتاب واصفا إياي بالكاتب، لقد سررت بذلك، فأن تكون كاتبا في طنجة يعني أن تكون شخصا ذا قيمة.