بقلم رشيد العفاقي (*): مسرح ثربانطيس (Teatro Cervantes) هو أجمل مسارح طنجة وأشهرها على الإطلاق، وضع الحجر الأساس لهذا المسرح يوم 2 أبريل من عام 1911م. وقد بادر إلى تشييده السيد منويل بنيا (Manuel Peña) وزوجته إسبرانصا أوريانا (Esperanza Orellana). السنيور منويل بنيا أصله من منطقة الباسك، ويحمل الجنسية الإسبانية، قطنت عائلته مدينة طنجة في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وكان عملها يرتكز على بيع المواد الغذائية المستوردة من إسبانيا، وخاصة البيض والأسماك واللحوم، أما زوجته السيدة إسبرانصا أوريانا فإنّها من شدة حبها للمغرب تعلّمت العربية لدرجة الإتقان، ووجّهت جهودها للخدمات الإحسانية فكانت تخصص منحة سنوية قدرها 60 ألف بسيطة (Pesetas) توزعها على المعوزين. وهي تشترك مع زوجها في عشق الفن والثقافة. فاتفقا على إنشاء مسرح بطنجة يكون مبنيا بمواصفات المسارح العالمية المشهورة، فكان مسرح سربانطيس (Teatro Cervantes) دُرّة مسارح المدينة. وفي مناسبة تدشينه كتبت جريدة (El Liberal) الإشبيلية عدد 3665 الصادر يوم 3 أبريل 1911م ما نصّه: "دشن أمس، بين التصفيقات الحادة، مسرح باسم سربانطيس، وهذا هو النجاح الأول والأسمى للعمل الذي يعتزم السيد بنيا وزوجته القيام به بكل سرعة، بإرشاد ذكي من المهندس المعماري خيمينيس الواسع الشهرة. والمسرح يقع في موضع ممتاز يملكه في طنجة السيد بنيا وزوجته، وسيسع المسرح ألفا وخمسمائة متفرج تقريبا، والصالة الكبيرة ستكون مزينة بالرسوم البارزة ذات ذوق ممتاز، وستحتوي على ثلاثمائة مقعد، وصَفّ من الشرفات، ومكان للأوركسترا في مقدمة الصالة. والدور الرئيسي سيحتوي على أماكن لأصناف متعددة من المقاعد. وخلال حفلة التدشين حضرت نخبة ممتازة من الجالية الإسبانية وعلى رأسها الممثل الدبلوماسي الإسباني، وبعض الأسر المشهورة من أصدقاء تربطهم صداقة خالصة مع السيد مانويل بنيا وزوجته". وقد تَمّ بناء المسرح على يد المهندس الشهير دييغو خمينيث (Diego Jimenez)، وقام الرّسَّام الإسباني الشهير ريبيرا (Ribera) برسم زخارف قُبّة القاعة، أما ستارة المسرح فكانت من تصميم وإنجاز المخرج الإيطالي بوزاتو (Bozato). ولكي يكون المسرح في مستوى المسارح العالمية، تعاقد السنيور بنيا مع أشهر شركة للبناء في إسبانيا والمغرب وهي "شركة أوخينيو ريبيرا وشركاؤه" التي كان يرأسها السنيور كومينديو الذي أسس فيما بعد شركة اللوكوس بالعرائش. كما وقع اختياره على المهندس البارع وقتئذ السنيور دييغو خيمينس الذي تولى الإشراف الفني والهندسي. ولتزيين القاعة والسقف، استجلب الرسام الإسباني الشهير فيديريكو ريبيرا شقيق صاحب شركة البناء المكلفة بتشييد المسرح. ووقع اختيار موقع إقامة مسرح سرفانطيس فوق البقعة الأرضية التي كان يملكها السنيور بنيا والتي كانت تمتد من البوليفار حتى شارع صلاح الدين الأيوبي حاليا. أما مواد البناء الحديدية والإسمنتية، فقد تم استجلابها من إسبانيا. والمسرح في شكله الهندسي هو عبارة عن بناية كلاسيكية لا يقلّ عن سواه من المسارح المماثلة في إسبانيا وأوربا، إطاره بيضاوي الشكل، ويضم 1500 مقعد، و300 كرسي (فوطويات)، وشرفات متعددة، ومقاعد خلفية احتياطية للجمهور المتوسط الدّخل. أمّا الديكور الداخلي والخارجي للمسرح، فهو آية في الروعة والإتقان، فيه الإسباني، وفيه الإيطالي، فاللوحات المرسومة على الجدران هي عبارة عن نوع من المبرد (الفريسكو) المستعمل حسب التقاليد الفنية التي وضعتها المدرسة الإيطالية في عهد النهضة. أما الرواق الخارجي للمسرح، فكان من رسم الفنان العبقري بوساطو. وهذا ما جعل السنيور بنيا (Peña) يؤدي للرسامين والنحاتين ضعف ما دفعه كثمن لبناء المسرح. ومما زاد من لمعان المسرح، تزيينه بواسطة المرآة الضخمة التي صنعتها شركة "لافينيينا" بسرقسطة. أما الخشبة فكانت تحتوي على 39 ديكور وثلاثة ستائر من النوع النادر. ولم يفرغ من بناء المسرح إلّا بعد سنتين ونيف من العمل، فتمّ افتتاحه في عام 1913م. وتوالت بعد يوم الافتتاح الحفلات والأنشطة الفنية والثقافية، كانت أولها مشاهدة الشريط السينمائي الصامت كوفاديس. وفي يناير 1914م قدّمت فرقة "خوان طالافي" مسرحية "هَمْلِت" مترجمةً بالإسبانية، وكانت تلك بداية للنشاط المسرحي العالمي. بدأ مسرح سربانطيس يشق طريقه نحو الشهرة العالمية عن طريق استجلاب ودعوة فرق الأوبرات المشهورة كالتي قدّمها ايميليو جيوفاني الإيطالي، والفرق المسرحية العربية والمغربية كفرقة يوسف وهبي وفرقة فاطمة رشدي، ومُثّلت على خشبته مسرحيات "صلاح الدين الأيوبي" و"مجنون ليلى" و"موسى بن نصير" و"الرشيد والبرامكة" و"كليلة ودمنة". وفي العشرينيات من القرن الماضي، ظهرت نخبة من المثقفين الطنجيين كانت تسعى وتُخَطِّط لتحرير ووحدة الوطن، فاتخذت من مسرح سرباطيس منبرا للتعبير، وقد تسترت تحت غطاء جمعيات رياصية وكشفية وثقافية، وكان من بينها "جمعية الهلال" التي تم توقيفها ومنع نشاطها سنة 1934م. وكانت تلك النخبة الواعية تضم خيرة شباب طنجة أمثال سيدي عبد الله كنون والسيد محمد أقلعي والمرحوم محمد الريفي وإدريس الجاي، والسيد أبو علي والسيد مصطفى بن الفقيه وغيرهم. ولن ينسى التاريخ فضل مسرح سرفانطيس في تأجيج الحماس الوطني، فمن خلاله التقى الوطنيون المغاربة بأحرار العالم أمثال الأمير شكيب أرسلان، وغيره. ومن جِهة الأكلاف المالية التي أقامت هذا المسرح بنايةً وتمثيلًا، فقد تحمّلها مُؤَسِّسُوه، على أنه بعد الحرب العالمية الأولى بدأت الأحوال الاقتصادية لعائلة بنيا (Peña) تتدهور، فلم تعد قادرة على تحمّل مصاريف الفرق التي تتوافد على المسرح، فاقتُرح على السنيور بنيا (Peña) أن يُحوّل مسرح سربانطيس إلى نادي (كازينو)، ولكن حبه وتعلقه بالفن والثقافة جعله يرفض المساومة والإغراء، واستمر يُقاوم حتى سنة 1928م، وهو التاريخ الذي تنازل فيه السنيور مانويل بينيا عن مسرح سرفانطيس، حيث تمّ تسليمه للدولة الإسبانية في شخص قنصلها آنذاك بطنجة الذي كان يحمل صفة وزير منتدب. ولايزال المسرح في ملك الدولة الإسبانية بحسب ما ورد بالجريدة الرسمية المغربية لعام 2007م. وخلال الفترة الدولية (1923م-1956م) عرف المسرح نشاطا منقطع النظير، ومثلت فوق خشبته العديد من الفرق الإسبانية والفرنسية والمغربية والعالمية التي كانت تضم أسماء مرموقة في فن الغناء والتمثيل والباليه، ومن يرجع إلى صحف طنجة اليومية والأسبوعية في تلك الفترة سيلاحظ أن العروض المسرحية كانت متواصلة بشكل مكثف طوال العام. وبعد استقلال المغرب، بدأ مسرح سربانطيس يستقبل الفرق المغربية الفنية والثقافية، واستمرت أبوابه مفتوحة في وجه الجمعيات والأحزاب السياسية. كما كان الموقع الأنسب لإقامة الحفلات والمهرجانات الوطنية والدولية. وفيه أقيم أوّل مهرجان لنصرة القضية الفلسطينية بالمغرب. ولاتزال بناية مسرح سربانطيس قائمة إلى يوم الناس هذا، ولكنها تعيش أرذل العمر، ولا يوجد في القوم من يُعيد إليها مجدها الغابر. إنّ مَن عرف مسرح سربانطيس وعايشه بالأمس يحس بالأسى والألم عندما يمر أمامه اليوم، فالجدران متصدعة، والأبواب مهشمة، والزجاج مُكَسّر، والحيطان منخورة، والكراسي مقتلعة، والأزبال تحاصره من كل ناحية، والجرذان تتجول بداخله مستعرضة "مسرحيات" التخريب والإهمال والضياع. وكَمْ مِنْ حبال صوتية تقطّعت في سبيل المطالبة بردّ الاعتبار لهذا المسرح الطنجي العريق، وانتشاله من براثن الإهمال والضياع والخراب، فلم تلق تلك الأصوات إلا الكلام المعسول والوعود الكاذبة. المتفاءلون لازالوا يحلمون بفجر جديد للمسرح يستعيد معه وهجه القديم، أمّا الذين لا تخدعهم لغة الخشب، ويحسبون الأمور بميزان العقل، فإنهم متؤكدون بأنّ مسرح سربانطيس لن تقوم له قائمة، وأنه مات ولم تبق إلّا مراسيم الدّفن، وأنّ أيام العِزّ التي عاشها هذا المسرح في زمن مضى قد ولّت إلى غير رجعة.