الحقيقة شقيقة للعين التي ترى. لنقل العين الثالثة، التي تحسن الإنصات، بتعبير هايدغر، أكثر من صناعة الخطب، و ممارسة فعل التفسير و التأويل، قبل تأسيس فعل الفهم الجيّد، و الاستيعاب الأمثل. أما صناعة الخطب، فنعني به إعداد )المخدر(، الإعداد الفني الجميل، لكن المغامر في حساباته.. لأنه مهما طالت لحظة غفوة فرد، و غفلة جماعة بشرية، أو تغفيل و تهميش، أو تنحية الحقيقة العاقلة، و المرفوضة بالكامل، من طرف سلطان الحقيقة المهيمنة، و المستبدة و الطاغية، فلا بد، ذات يوم، أن يستيقظ أهاليها المغفلين و المقموعين.. أو الممنوعين من الكلام أو التعبير و العمل المباحين.. و حينذاك، سيصعب تخيل الطريقة البشعة، التي يمكن أن يعيد بها ذلك الفرد، أو تلك الجماعة، توازنهما الطبيعي المفتقد، في الزمن السابق، و الباحث عن رد الاعتبار لذاتهما المشروخة، كمكوّن بشري مجتمعي و مدني، أي خاضع لتحولات المدينة السريعة و المعاصرة، بخصوص علاقته الصراعية في حقيقتها، بمالكي أنبوب )المخدر( و توزيعه، حسب الحاجة و الرغبة.. حاجة المستهلك العمياء، و رغبة طمع المنتج، الذي لا يشبع. نتحدث هنا طبعا، عن مفهوم سيكولوجية الإنسان المقهور، كما طرحه الباحث المصري مصطفى حجازي.. في تعلقه الكبير و الجدلي - نعني المفهوم - بسلطة حقيقة ما هو استبدادي و طاغ، بطريقة تجعل الطرف الثاني ) المقموع ( في معادلة الصراع الجاري، في الحقل الاجتماعي، مفتقد لأدنى شروط آدميته الجوهرية، و نعني بها الحرية و الكرامة و العدالة و المساواة.. فتبدو القوة المتسلطة سيدة الميدان، تصول و تجول كما تشاء، مبعدة الآخرين بالقوة، سواء المادية أو الرمزية، مع الحرص الأساسي على المضي التأكيدي، في أسلوب إضعافهم التدريجي، بكل ما يتيحه لهم ذكاؤهم السياسي البليد، من سبل و استراتيجيات تفكير الإبعاد اللاوطني، و الدوغمائي في عمقه.. و احتكار الحقيقة، كمنظومة قيم بشرية، بفرض حقيقة استعباد الأفراد و الشعوب. و هو أمر بات اليوم، مع حراك الربيع العربي، و الثورة الشبابية، من حقائق المستحيلات ؟ إن الحقيقة التي تهيمن، هي دوما، الحقيقة المرغوب فيها، سواء بالنسبة للإنسان القوي المتسلط ، أو بالنسبة للإنسان الضعيف الخضوع. أي هناك فارض للحقيقة، و مستقبل لها. لكن قوة الأول ليست ضرورة قوة مادية. و قد يكون نيتشه هنا على خطأ، لو عاصر و شاهد بأم عينيه الضيقتين، ثوراتنا العربية المجيدة، و هي تقلب القيم : القوة تنهار لتصير ضعفا، و الضعف ينقلب قسرا، بقدرة قادر، إلى قوة هائلة. لأن الإنسان الذي أشعل فتيل الثورات العربية ) تونس، مصر..( كان من فئة شباب، لا حول لهم و لا قوة.. بالمعني المادي و السياسي. و نعي جيدا ماذا نعنيه بكلمة "أشعل". لأن أغلب ممارساتنا السياسية القوية، تتوقف عند عملية الإشعال. أي التنفيذ الحقيقي المكمل لسلسلة العمليات السابقة. القوة هنا، تعني المعنى العملي، لكلمة إرادة الحرية و التحرير و التحرر. أي تقويض و تكسير قيود و أغلال سلطة الاعتقال الفكري، و الروحي و الرمزي للإنسان. إنها الحقيقة المبحوث عنها، في تاريخ البشرية. و تقمع دوما بالسيف أو بالتهميش، أي بحقيقة مضادة، هي حقيقتهم الطاغية، بمعنى حقيقة الأقوى بالسلطة و المال و السلاح و السياسة الرسمية.. إلخ في مواجهة دائمة مع الحقيقة المفقودة.. و المدفوعة دوما إلى التيه الملتبس. و هي حقيقة حرية الشعوب المقموعة، التي إذا طفت إلى السطح، تتحول إلى تسونامي قوي، لا يهدأ له بال، إلا بعد أن يعمل على اجتثاث أصول السلطة المهيمنة، و تنحية النظم القمعية و الطاغية من جذورها العميقة. و لدينا الأمثلة البليغة في واقع الكتاب المفتوح راهنا، في الواقع العربي، نعني به ما اصطلح عليه ب ) الربيع العربي (.. و هو شكل من أشكال التغيير الفعلي و الحتمية التاريخية، الذين فرضتهما شروط ضرورة رد التوازن و الاعتبار، لكرامة الإنسان و لقيمه النبيلة.