لقد أثارني نمط من التفكير يسود الساحة الفكرية العربية ، وصفه كثيرون بنظرية المؤامرة في وقت أن الخطاب الفكري و السياسي بوطننا العربي منذ ما ينيف عن نصف قرن إلى وقتنا الراهن يأبى التعاطي في تحليلاته و معالجته للواقع العربي بالاستناد إلى ما يجري بمحيطنا بمثابة مؤامرات تنطلي علينا من الغرب تتحكم في تلابيبها الإمبريالية و الصهيونية و كذا الرجعية و أن الأنظمة و الشعوب لا مسؤولية لها حيال ما يجري و أن الإرادة غير حاضرة و الأمور سلمت بالمرة للغرب بشكل شمولي أضحى بعدها يفعل ما يريد .. و في ظل هذه المؤامرة المشؤومة انعدمت الديمقراطية و حقوق الإنسان ، هزل الاقتصاد نتيجة تخلف التنمية و ضعف المجتمع المدني و تأخرت التكنولوجيا و عمت الخرافة و الوهم .. و في هذا السياق و بالرغم من الوقائع و الأحداث الصارخة في خضم الربيع العربي التي تفضي إلى إعمال العقل و المنطق و تفهم العوامل و الظروف و الحيثيات المحلية ، الإقليمية و الدولية و محاولة الاحتكاك بتجارب و خبرات أقطار كاليابان ، الصين ، الهند ، ماليزيا و كوريا في هذا النطاق و التي نمت شعوبها فوصلت الآن إلى مدارج الرقي ، فإن فكرة المؤامرة الصهيو/أمريكية/غربية الأبدية على العرب و المسلمين هي مجرد فكرة أقنع بها هؤلاء أنفسهم و استطابوا إليها لأنها تؤدي في حياتهم عدة وظائف مفيدة ، فهي تعفيهم من مواجهة عيوبهم و بتلك المجهودات بغرض إصلاح العيوب ما داموا على الدوام ضحايا لتلك المؤامرة المثيرة للجدل التي أضحت شغلا شاغلا و هما دائما لذاك العالم الرحب و الواسع الذي يوصف بالغرب تعطي الانطباع و الإحساس بالأهمية .. فالعرب و المسلمين و ليس غيرهم هدفا لتلك المؤامرة التي تشغل بال الغرب .. الأمر كذلك ، نحن و ليس اليابان ، ماليزيا ، الصين و كوريا تتطور باستمرار على وشك اللحاق بالغرب و بإمكانها تضييق الخناق عليه في شتى المجالات ، العرب و المسلمين في نظر الغرب من دون مجتمعات البشرعبر المعمور الذين نرعب الغرب و نحرم أجفانه النوم .. إن الاعتقاد بوجود مؤامرة كونية يحبكها الغرب لنا دون العالم يمكنها دغدغة مشاعرنا و تجلب لنا السعادة لا تدانيها سعادة المخدر ، فكل شيء لدينا على ما يرام و المشكلة تكمن في الغرب المتآمر و لا مناص من الإصرار على تأكيد هام جدا أن لا يمكن لأحد تبرئة الغرب من محاولاته استحواذ العالم ، و لايمكن لها الفلاح إلا من خلال نقاط ضعف على هذا الكوكب الذي يضمنا و هناك مفارقة عجيبة أن الذين يرون نظرية المؤامرة يستهلكون في حياتهم و سلوكياتهم اليومية أحدث تقنيات و منتجات تكنولوجيا هذا الغرب إلا أنهم يرفضون كل فكر غربي ، لا في أفضل جاهزيتهم لاتهام الغرب بضلوعه في أي حدث و حتى ذاك الذي لم يكن فيه أي منفعة ، إذ من أشد مظاهر الوهن أن يستسلم العرب و المسلمين لرأي المؤامرة الغربية حيالهم بالذات يتفادوا أن المواجهة المثلى لأي مؤامرة إنما تكون بالعمل الشاق الدؤوب بلا خشية ، أن نبلغ المستوى الذي نغدوا فيه أندادا لهذا الغرب المتآمر ، لا تبعية ثقافية ، علمية و تكنولوجية و سياسية .. قد يكون الأمر هنا عصيبا و لكن لماذا لا نقف على أقل تقدير عند منطلق الطريق بدلا من الاستناد و الاستغاثة من "الذئب" الذي ليس بمقدوره اقتحامنا لو تمكنا جعل أسوارنا تعلو يوما عن يوم.. في وقت أن لدينا أدمغة هجرت إلى الغرب و هي مستغلة من قبله كمحطة الآنازا الأمريكة يسيرها عرب ، العديد من الدول بأوروبا بها أطر عربية تسهر على التكنولوجيا المتطورة و كان بالعراق علماء ذرة و من لم يسمع بالمصري المشد عالم الذرة الذي اغتالته إسرائيل في بداية الثمانينات ، ناهيك عن علماء عرب آخرين أنتجوا كثيرا من التكنولوجيات المتطورة أجهضت في مهدها من قبل الغرب بأيدي عربية .. فمن أين استمد الغرب العلوم التي أوصلته حاليا إلى الرقي ضمن الحضارات الحالية بعد أن كان يعيش في دياجير الظلام و الجهل ، من عباقرتنا و علمائنا ، العرب ينامون على بحار من النفط و أرضنا تحتها كنوز من المعادن المختلفة و أرض السودان وحدها بإمكانها أن لا تبقي عربيا فقيرا واحدا ناهيك عن زكاة عائدات البترول ، كل هذا يكفينا من تبعية أنظمتنا للغرب لكن نغتال بنيران صديقة ، إن الذين استقووا بالغرب لإزاحة نظام صدام الذي وقف أسدا و ندا للغرب و الذين حاكموه ظلما بداعي مجزرة الدجيل ، فمن يحاكم الشيعي نوري المالكي الذي يقتل السنة العراقيين بإيعاز من إيران و حزب الله في مجزرة الحويجة و غيرها..؟ الأمر نفسه يقع بأيدي هؤلاء المجرمين في حق سنة سوريا في الحرب الأهلية الدائرة رحاها في أرض الشام ، و الجميع ساكت على ما يجري للشعب المسلم بميانمار من مذابح تجري ليلا و نهارا و الغرب لا يحرك ساكنا و حينما ترتكب إسرائيل جرائم حرب ضد الإنسانية في حق الشعب الفلسطيني الأعزل على أرضه ، يخرج بالقول أن إسرائيل تدافع عن نفسها و كأن الشعوب الأخرى عدا الغرب فدماءها رخيصة ..