من تحصيل الحاصل القول إن نظرية المؤامرة تشكل مكونا بنيويا في نسق الفكر السياسي الكوني ، كما أنها ترتبط بالوجود الإنساني في مختلف الحقب التاريخية . و غني عن البيان الإشارة إلى أن العرب – في العصر الحديث تحديدا - كانوا بحق ضحايا المؤامرات الأجنبية ؛ و لعل اتفاقية سايس بيكو في مستهل القرن العشرين أتاحت للغرب إمكانية تفتيت العالم العربي ، و زرع إسرائيل في قلبه من أجل الحيلولة أن تقوم للعرب قائمة .. لا بل إنا قد نتفهم من يذهب الآن إلى أن حراك الشارع العربي الراهن هو وليد مخططات أمريكية و إسرائيلية و أطراف عربية ، من أجل خلق واقع سياسي مختلف يهيئ لمواجهة " قادمة " بين عرب السنة و النظام الإيراني . غيرأن إيماننا بهذه المسلمات " البديهية " شيء ، و تعليق خطايانا و مسلكياتنا الدراماتيكية على مشجب " المؤامرة " الخارجية شيء آخر . فمهما كان وقع المؤامرات الأجنبية و مفعولها ، لا يمكن أن تلحق أي ضرر إذا كانت الجبهة الداخلية محصنة على الوجه الأمثل . و هذا لعمري لم يحصل في جل الأقطار العربية " الرجعية " منها و " التقدمية " . لقد كان الأمل معقودا على ما بعد " استقلال " الدول العربية ، إثر تضحيات جسام و معارك رجولية و ضعت حدا للاستعمار الغربي طيلة النصف الأول من القرن الماضي ، بيد أن المسار الذي اتخذه الواقع العربي كان مناقضا لتطلعات الشعوب و أحلامها في الاستقلال و الوحدة و التقدم . حيث انقسمت الدول العربية إلى محمرين اثنين : محور المعسكر الشرقي" المدافع" عن الوحدة و الاشتراكية و القضاء على إسرائيل في إطار جبهة " الصمود و التحدي " ، و محور المعسكر الغربي " المدافع " عن الديمقراطية و الرأسمالية و القيم الليبرالية ، و قد تجسد هذا المعطى " التاريخي " في مناخ ما سمي بالحرب الباردة . و بعد عملية حشو مريعة لعقول صغار المواطنين و كبارهم بالعناوين الطنانة و الشعارات الجوفاء و القمم " المنحدرة " ، تكتشف الشعوب العربية أنه غرر بها من قبل زعمائها " أصحاب الجلالة و الفخامة و السمو " . مرت خمسة عقود – تقريبا – على خروج الاستعمار الأوروبي ليتيقن الشعب العربي أن حكامه كانوا فعلا في ميدان " التصدي و المواجهة " : تصديهم لشعوبهم و أحلامهم بالعيش الكريم و مواجهة كل من سولت له نفسه أن يطالب بحقه في التعبير و العمل و السكن و الأمن .. و أضحت خيرات العالم العربي الكبير تحت الأرض و فوقها من نصيب الأسر الحاكمة المتحكمة ، تلك الأسر التي مارست مختلف أنواع التنكيل و التعذيب و الترهيب في حق شعب ذنبه الوحيد أنه لا ذنب له . و الآن وبعد أن دقت ساعة الحقيقة ، و بفضل ثورة تكنولوجيا الاتصالات و ثورة المعلوميات ، و انتشار الخبر و سهولة التواصل ، و اليقين المطلق بأن " الحكام " العرب عاجزون عن تحقيق ما وعدوا به ليلة قبضهم على كرسي الزعامة ، بعد الانقلابات العسكرية و مجيئهم فوق ظهر الدبابة في الغالب الأعم ، نهض الشارع العربي بغض النظر عن العوامل الجيوستراتيجية المصاحبة ، من أجل استرجاع حقوقه المغتصبة من قبل الحكام المتآمرين ؛ و الذين أبانوا عن ساديتهم و نزعتهم الدموية و استماتتهم في الدفاع عن أنفسهم بشتى وسائل القمع البوليسي و العسكري . و ما يقع الآن في ليبيا "ملك ملوك إفريقيا" و اليمن غير السعيد و سورية " الأسد " على شعبه فقط ، دليل ناصع على بشاعة المؤامرة الداخلية . فأين هي المؤامرة الخارجية ؟ أليس من حق الشعوب التي جردت من أبسط الحقوق المادية و المعنوية أن تصرخ ؟ أليس من حقها أن تدق باب " الصهريج " ؟ ثم ألم يكن أمام هؤلاء " الزعماء " المجانين أي حل آخر سوى إراقة الدماء و تدمير المعبد بمن فيه ؟ هل حدث في تاريخ البشرية قديما و حديثا أن " خاطب " رئيس شعبه و هو يقهقه و ينفجر ضحكا ( بشار الأسد ) ، في اللحظة التي يسبح فيها المتظاهرون السلميون في دمائهم و تحت وابل الرصاص الحي ؟ لقد آن الأوان لوضع "نظرية المؤامرة الأجنبية " جانبا ، من أجل التعاطي مع المؤامرة الداخلية ؛ مؤامرة الإبقاء على قانون الطوارئ و رفض التعددية الحزبية و قمع الحريات الإعلامية و تقوية جهاز المخابرات .. إننا لا نطلب أكثر مما تتمتع به الشعوب التي تستحق هذا الإسم ؛ نظام سياسي ديمقراطي عصري يقوم على ما قدمته البشرية من اجتهادات و مواثيق و قرارات ملزمة ، و توزيع عادل للثروة و مراقبة و محاسبة الحاكم و المحكوم على حد سواء ، فهل سيستجيب زعماؤنا " المبجلون " لمطالب الشعب الملحة و المنسجمة ومنطق العصر ؟ أم أنهم سيخلفون الميعاد كدأبهم على ذلك ، و يخطئون قراءة التاريخ و يرحبون ب " المواجهة إذا فرضت " حسب تعبير الرئيس السوري " الضاحك " ؟!