تفاجأت ، سيدتي ، بردك السريع عن رسالتي المنشورة في ذات المجلة الأدبية التي تتحمل نشر لغوي المحموم . . كان ردك آخر ما توقعت ، فرحت به كما فرحت بلقائنا الأول ، رغم ما حمله من عتاب رقيق و تشف اختبأ بين السطور . تفتحت كلمات ردك كورود أوائل الربيع ، فاحت بعطر جسدك الذي شممته يوما فعلق بخياشيمي ثلاثة عقود . بحثت عنه في كل الأجساد الموشمة بالعشق و اللذة المجنونة على أسرة الفنادق المصنفة بنجوم السماء . بحثت عنه في العربدة بين الأثداء و الأعناق المزينة بالحلي المرصع بلون عينيك .. فلم أعثر عليه .. غاب معك ، يا سيدتي ، حيث تنامين ، حيث تمشين ، حيث تتنزهين . لماذا استكثرت علي رسالة بعثتها لك بعد صمت ثلاثة عقود ؟ كنت أخرسا ، أخرسني جفاؤك .. و كنت قد أقسمت أنك لي .. و أقسمت أني لك وحدك .. و لازلت بارا بقسمي ، فهل تصدقين ؟ .. قلت في لحظة هيام " فلنخرج و نعلن للناس هذا الذي بيننا " ،قلت لك " يكفي أن يبقى بيننا " ، طاوعتني ، و بقي حبنا بين المسافة القصيرة بين روحينا . حرك ردك طيف وجهك الذي رأيته يوما فسكن روحي و جدران بيتي العتيق ، و سقف غرفة نومي .. نعم سقف غرفة نومي .. حتى إذا ما استيقظت و فتحت عيني ، أنظر إليك .. أسلم عليك .. لا أخونك بالسلام على غيرك .. هل تصدقين أني طلبت من أحد الرسامين أن يرسم صورتك كما أمليتها عليه ، مكبرة و مكررة في لوحات زيتية بدون توقيع حتى لا يشاركني فيك بحروف اسمه .. غرفة يومي لا يدخلها أحد غيري ، مما أثار استغراب الخادمة العجوز و كل من زارني ، لأستأثر بالنظرة إليك كما كنت ليس كما أنت . فلا أدري أي صورة أنت عليها اليوم . أنظر إليك و أشكو لك وحدتي و متاعب يومي و أرقي كأنك جسدا و روحا أمامي تتحركين مسجونة بين ألوان اللوحات الزيتية .. هل تصدقين ؟ قلت في ردك ، أنني أحرجتك أمام أفراد أسرتك الصغيرة ، فاعذريني قد طال صمتي و عيل صبري ، و لو لم أكتب لك تلك الرسالة لكنت قد أصبت بطوفان من الجنون لا أبرأ منه أبدا ، فسامحيني . قولي لهم إن هذا المجنون يقصد امرأة أخرى .. يقصد " نونا " أخرى ، ليست نونك أنت .. فلائحة " أنوان" الأسماء طويلة كطول مدة صمتي. قلت إن اللقب الذي لقبتك به في رسالتي أكبر منك . بحثت في كل قواميس عشقي فلم أجد غيره " صاحبة الجلالة نون " لم أجد ، يا سيدتي ، أكبر و أصدق منه ، لأضعه على رأسك تاجا سرقته من حفريات قصر بلقيس، من بلاد اليمن السعيد .. و لو كنت خارج خارطة البلاد العربية للخوف لذكرت اسمك كاملا. اسمك النوراني الموحي بالخلاص و النجاة .. يخفت يوما و يتوهج أياما .. أردده مع كل نظرة إلى صورتك المرسومة بريشة ذلك الرسام المغمور من مدينتي ، رأيته بتسول من وراء لوحاته على قارعة الطريق. يا سيدتي قد بحثت لقيآك بأي شكل ، حتى و إن كانت للعتاب و الصراخ .. و ها قد التقينا على صفحات هذه المجلة .. تراشقنا بالكلمات ، و أخفته السطور من معاني ، صنعت في داخلي لذة اللقاء المفاجئ . قلت لما شاهدت صورتي ، أنني هرمت أكثر مما توقعت ، و بصعوبة تعرفت علي . هل نسيت أني تجاوزت عقدي الخامس ؟ هل نسيت تاريخ ميلادي ؟ . أنا لم أنس تاريخ ميلادك ، فتواريخ ميلادنا كانت متقاربة ، كما كانت أرواحنا متقاربة يوما .. يوم ضاع بين الأيام .. ذاب كقطعة سكر في فنجان قهوة به ودعتك آخر مرة في فندق" المنتهى " لما كنت تعملين كمضيفة في شركة طيران وطنية أو أجنبية لم أعد أذكر ، فقد هرمت ذاكرتي مع روحي في جسدي ، فاعذريني سيدتي . حولت ردك إلى زجاجة خمر معتقة من النوع الرفيع ، أفرغ كلماتها في كأس " طويلة الرقبة " ، أسكر حتى الثمالة ، تدور رأسي و يرفرف قلبي كشراشف منديلك الشتوي ، لممت به شعرك الغجري ،لما خفت عليه من البلل ذات مساء ممطر . تحولت إلى عصفورة شاردة عن سرب هاجر جنوبا كعادته . دسستك تحت معطفي الصوفي الطويل .. مشينا تحت المطر ، و غنيت لك أغنية تحبينها .. غنيتها لك وحدك ، لأنك وحدك من تستحقين سماعها يا صاحبة الجلالة . أبطأنا في مشيتنا تحت المطر المنهمر كخيوط مناول غزل الصوف ، تراقصت زخاته مع كلمات الأغنية المحبوبة . طبعت رسالتك و نسختها خمس مرات عدد حروف اسمك المحبوب ، و علقتها على الجدران و فوق المرآة و خلف الباب الخارجي لأقرأها كلما هممت بالخروج لأجتر كلماتها في الطرقات .. جعلت منها وصية لوريث وحيد هو أنت ، يا سليلة زمني المتورم بالعشق .. اعذريني ، يا سيدتي ما كان لي أن أتخلف عن ذلك الموعد .