بقلم: سلمان عبد الأعلى / لا يشك أحد بما تُخلفه المجاملات من آثار طيبة تبقى خالدة في النفوس، فالمجاملات تلعب أدواراً كبيرة ولا يستهان بها في نفوس البشر، لأنها تُذيب الحساسيات وتزيل العوائق وتقوي الروابط وتفضي للمزيد من الألفة والمحبة.. ومن منا لا تهفو نفسه لسماع الكلام الجميل والعبارات اللطيفة التي تدقدق مشاعره وأحاسيسه، وبالخصوص إذا كان ذلك من المحيطين به (من والديه أو أبنائه أو زوجته أو أصدقائه أو زملائه أو غيرهم). فكلنا -إلا ما شاء الله- يميل نفسياً لذلك، ولهذا قلما نجد العلاقات تُؤسس أو تتوطد مع أولئك الذين لا يُراعون الآخرين في عباراتهم وكلماتهم، وإذا أُسست وتمت فإنها في العادة تكون سطحية ولا تدوم طويلاً. ونحن إذ نذكر ذلك ونشير إليه فإننا لا ندعو ولا نشجع للمجاملة في كل الحالات واللحظات، فثمة حالات وأوقات لا تنفع فيها المجاملة وتتطلب وقفات جادة للصراحة أو للمصارحة، فقد تكون المجاملة في حالات كهذه تترك آثاراً سلبية (مدمرة وهدامة) على العكس مما يُراد منها، بيد أن المشكلة التي يعاني منها الكثيرين عندنا هي أنهم لا يريدون من أحد أن يصارحهم حتى وإن كانت الصراحة ضرورية وذات فائدة، فهم يريدون من الناس أن يجاملوهم ولو كان ذلك في غير صالحهم، بل وإن تطلب الأمر بعض الكذب أو الغش أو التزوير وربما النفاق ! ولا تتفاجئوا ولا تنزعجوا من استخدامنا لهذه المفردات المزعجة (كذب، غش، تزوير، نفاق) فاستخدامها ضروري هنا لتوصيف الحالة على ما هي عليه، لأن هناك فرقاً شاسعاً بين المجاملة وبين الكذب والغش والتزوير والنفاق وما شابهها، فالمجاملة هي أن تذكر أو تبرز أموراً واقعية وصحيحة موجودة في الأشخاص الذين تريد مجاملتهم، أما ما عدا ذلك فيخرج من عنوان المجاملة ليدخل في عناوين أخرى هي من هذا القبيل. إن مشكلة الكثيرين من المرضى بهذا المرض، وهو المبالغة في حب المجاملة أنهم ليسوا فقط من البسطاء، وإنما هم في الغالب من (كبار القوم) إن صح التعبير، فالكبار الكبار (كالبعض من رجال الدين والمفكرون والكتاب والشعراء) هم كذلك يحبون أن يُبالغ الناس في مجاملتهم، بل نجد الكثير منهم يسعون جاهدين لجعل الناس تمدحهم وتثني عليهم، وربما يجاملون الناس ليجاملوهم، وربما تجدهم يستجدون ذلك من الآخرين. ظناً منهم بأن العظمة تخفي نفسها خلف ألسن المادحين، وبعد حصولهم على غايتهم هذه نراهم يعتبرون هذا المدح (المستجدى) شهادات ونياشين يعلقونها على صدورهم ويتفاخرون بها أمام الملأ ! وياليت هؤلاء يلتفتون ولو قليلاً إلى النقد الذي يوجه إليهم ويأخذونه بعين الاعتبار حتى يصححوا مسارهم أو لنقل ليصححوا ما أعوج من مسارهم المتعثر، ولكننا نجدهم يهملون ذلك ويصدقون كل من يمدحهم ويجاملهم لأنهم يريدون ذلك حتى ولو كان هذا من الكاذبين والمنافقين، وفي المقابل نراهم يُكذبون كل من ينقدهم أو ينتقدهم حتى ولو كان من الصادقين المخلصين .. فيا للعجب !! لذلك نجد البعض من هؤلاء ومن كثرة سماعه لمدح المادحين له أخذ يقدس نفسه ويحيطها بهالات من القداسة التي لا تستحقها ولا تستحق الأدنى منها، حيث نراه قد جعل نفسه في مقام أرقى من النقد، وهو يظن واهماً بأنه في حقيقته هكذا، وهو مسكين ومغفل لأنه لا يعرف نفسه جيداً، لذا نراه يشعر بنوع من الحساسية المفرطة تجاه أي نقد يوجه إليه أو حتى شبه نقد، وهذا ما أبتلي به الكثير من النخب الثقافية والإجتماعية وبالخصوص بعض رجال الدين في مجتمعاتنا، حيث لم يعتادوا إلا على سماع مدحهم وتأييدهم وخطب ودهم ورضاهم، لدرجة أصبحوا لا يتحملون فيها صراحة من يصارحهم، ويتحسسون لذلك أشد التحسس! وقد يخلط أو يربط البعض عن عمد أو عن جهل بين المدح والتشجيع، فهو يرى بأن كل مدح تشجيع، وكل نقد أو مصارحة تحبيط إن صح التعبير، فمن يمدحه ويبالغ في مدحه أو من يكذب عليه وينافقه هو صديقه الودود لأنه يشجعه ويدعمه أو لأنه يقدر الحقيقة –طبعاً كما يراها هو- أما من يصارحه أو ينقده ولو كان مخلصاً له وحريصاً على مصلحته فعلاً فإنه سيصبح في نظره عدواً له أو لنقل شبه عدو، (إذ سيعامل كالأعداء)، لأنه بنظره يحبطه وينتقص من حقه ولا يقدره حق قدره !.. وهذا ما نراه جلياً وبارزاً أكثر في سلوكيات بعض من يسمون بالنخب الثقافية أو الإجتماعية (كرجال الدين والكتاب والأدباء والشعراء والمفكرون والوجهاء وغيرهم)، والمشكلة مع هذه الفئات من الناس هي أن البعض منهم تكون مجاملته مضرة به، فضلاً عن نفاقه أو الكذب عليه أو لأجله كما يفعل الكثيرون، فهو في الحقيقة ليس محتاجاً لا للمجاملة ولا للتشجيع بالكيفية التي نشاهدها في مجتمعاتنا هذا من جانب. ومن جانب آخر وهو لا يقل أهمية عن الجانب الأول، وهو أن هذا مدعاة لئن يدخل في صفوف هؤلاء (النخب) بعض المتطفلون الذي لا يحسنون ما يحسن هؤلاء، ولكنهم مع ذلك يريدون أن ينافسونهم ويأخذوا نصيباً لا يقل عنهم من حيث المقام والمنزلة، والأنكى من ذلك أن يتم تمييز أولئك المتطفلون على من هو أعلى شأناً منهم، ومن لا يصح مقارنتهم به، (وهم النخب الحقيقية) وهذا الأمر مع شديد الأسف حاصل في واقعنا الإجتماعي، وكل ذلك بسبب المجاملات المنفلتة والتشجيع غير المتزن، إذ كثيراً ما يؤدي ذلك لإختلاط الحابل بالنابل كما يُقال. ونحن نلاحظ هذه الحالة في المجال الأدبي بشكل كبير، حيث ما إن يكتب أحدهم بعض الكتابات حتى يروج له أو يروج هو لنفسه بأنه أحد الأدباء الكبار المشار لهم بالبنان.. فيا سبحان الله ! والمصيبة العظمى أنه ربما يكون هو في واقعه لا يتعدى كونه كويتباً لا كاتباً أو شويعراً لا شاعراً.. فهل يصح السكوت عنه ناهيك عن مجاملته أو نفاقه أو تأييده ودعمه؟! هل يجامل مع يموضع نفسه في غير موضعها الطبيعي أو يرى نفسه فعلاً في موقع هو في الحقيقة دونه بمراحل؟! وهل يصح تشجيع من تتضخم ذاته إلى حد توشك على الإنفجار وهو فارغ من غير الهواء؟! هل يصح تشجيع من يرى بأنه في القمة أو قد وصل إلى القمة وليس في طريقه الطويل الطويل للوصول إليها؟!.. لاشك بأن مجاملة من هو على هذه الشاكلة جريمة لا تغتفر في حقه، ولو كان يعي أو يعقل لما سعى لها !! وربما يكون الأمر أخطر بكثير إذا كان المتطفلون يتطفلون في المجال الديني. وما أكثر أولئك؟ فكم من طويلب علم أضحى في نظر الناس من العلماء الأعلام، ومع ذلك يُجامل من الناس ومن رجال الدين الذين يعرفون حقيقته جيداً، ولا نقول إلا (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فهل نجاملهم أم نشجعهم على ذلك؟! .. معاذ الله ! لهذا ولذاك فإننا نرفض المجاملة أو التشجيع في كل الحالات، ومن هذه الحالات ما ذكرناها آنفاً. كما أننا لا نستطيع أن نعتمد على الشائع والمعروف والمشهور لدى الناس، فرب مشهور لا أصل له كما في علم الأصول، بل وكثيراً ما يكون الشائع والمشهور لا أصل له في الواقع الإجتماعي أيضاً، فالإعلام يلعب دوره الكبير في المبالغة والتضخيم تارة، وفي الكذب والتدليس تارة أخرى، مما يشكل عائقاً للوصول للحقيقة كما هي، ولذلك لا يصح الإعتماد على ما هو شائع أو مشهور كمعيار لتقييم الأمور، فالشهرة شيء والواقع الحقيقي شيء آخر، وليس من الضرورة أن يتحدا دائماً.