لا تخلو الحياة البشرية من ثلاثة أصناف من الناس مادح وقادح وناصح ومن المادحين من يكون صادقا ومنهم من يكون كاذبا فالصادق هو الذي يثني على الناس خيرا ليشيد بأعمالهم وخدماتهم ويمدحهم للإمتنان لهم بالعرفان ولما يتصفون به من أخلاق فاضلة وسلوك مستقيم وصفات حميدة جعلتهم يستحقون المدح والثناء والتنويه والشكر وكلما مدح الناس المستحقين للمدح يكون مدحه لله وفي دين الله لا يمدح من أجل الحصول على أموال أو هدايا أو امتيازات أو أي شيء من هذا القبيل بل يمدحهم من أجل أن يشجعهم على فعل الخير والبر والإحسان وليشكرهم على ما يقدمونه للناس من خدمات اجتماعية وعلى أعمالهم الخيرية وأخلاقهم الفاضلة العالية طبقا للحديث النبوي الشريف: (من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة أنتم شهداء الله في الأرض). ومن مدح الناس وأثنى عليهم وشكرهم على جهودهم المضنية التي يبذلونها في سبيل إسداء المعروف والمساهمة في البناء والتشييد لا يجوز لآخرين أن ينعتوه بالمتملق أو بالمسترزق أو بالمتسول وهو على صواب لكونه مدح من يستحق المدح خصوصا وأنه بمدحه لهذا النوع من الناس يكون قد أنصفهم واعترف لهم بالجميل وهذا من شيم العقلاء والأخيار الذين يعتزون بمواقف الرجال وينزلون الناس منازلهم مع العلم أن شكر الناس واجب لتحفيزهم على المضي في الطريق القويم الذي يوصل إلى شاطيء النجاة وبر الأمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال الله عز وجل: (عبدي لم تشكرني إذا لم تشكر من أجريت النعمة على يديه). ولا سيما إذا كان عمل الممتدح خاليا من الشوائب ومن كل سمعة ورياء لا يقرأ القرءان ليقال قاريء ولا يتعلم العلم ليقال عالم ولا يتصدق ليقال جواد وكريم ولا يجاهد ليقال شجاع وجريء بل يعمل لله حتى إذا مدحه الناس يكون أهلا لذلك وعلى الناس أن يكرموه ويجلوه ويعظموه ويوقروه وفي نفس الوقت عليهم أن يكونوا حذرين حتى لا يصيبهم المادح الكاذب بسهامه المسمومة وسلاحه الخطير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم والمدح والتمادح فإنه الذبح وقد حذر صلى الله عليه وسلم من المداحين الذين يجعلون من المدح حرفة لهم بلا صدق ولا إنصاف فقال عليه الصلاة والسلام إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ومرة رأى رجلا يبالغ ويسرف في مدح آخر فقال له: ( قطعت ظهر الرجل ). ولا يفهم من هذا أن الإسلام يحرم المدح أو ينهى عنه أو يمنعه بل الإسلام يرغب في إنصاف الناس بالمال وبالكلام وبالشواهد التقديرية وبكل شيء يرفع من قيمة العامل والخادم والقاضي والأستاذ والحاكم وكل الأطر العاملة بتفان وإخلاص للنهوض بمصالح الأمة وهذا من شأنه أن يقوي العزائم ويشحذ الهمم وينصف الناس ويعيد لهم الإعتبار لتدوم محبتهم لبعضهم البعض ولينشطوا فيعطوا أكثر ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في باب الثناء على الناس ومدحهم وهو الذي وصف أبا بكر بالصديق ووصف عمر بالفاروق ووصف عثمان بن عفان بذي النورين ووصف علي بباب مدينة العلم ووصف عبيدة بن الجراح بأمين الأمة وقال لأبي موسى الأشعري لقد أوتيت مزمارا من مزامير ال داوود ليشجعه على تحسين صوته بتجويد القرءان والتغني به لتشنيف مسامع الناس ليتذوقوا لذة وحلاوة القرءان الكريم إذن لا ينبغي أن يعاب على الناس مدح بعضهم لبعض لإظهار أعمال وسيرة وأخلاق الممتدحين الذين يحسنون ويتقنون ويصلحون ويبنون ويعينون ويساعدون ويتكافلون ويتعاونون ويكسون العاري ويطعمون الجائع ويسقون الظمآن ويقرون الضيف ويحملون الكل ويصلون الرحم ويتأدبون بآداب الإسلام فهؤلاء وجب على الناس إنصافهم ليستمروا على ما هم عليه من جادة وصواب ليبقى معروفهم جاريا غير منقطع إلى أن يلقوا ربهم وهم على ذلك ولكي يقتدى بهم غيرهم في نشر الفضيلة لبناء مجتمع نظيف خال من أي نفاق اجتماعي أو سياسي يترتب عنه تزوير الحقائق وتزييف الإرادات بالتمويه لمجاراة الفجار والمفسدين والتغطية على الزلات وتنويم الفاسد حتى يستمر في فساده بشعور أو بغير شعور إذ بمثل هذا تضيع الحقوق ويذبح الناس ويهلك الممتدح الذي يظن أنه على شيء أو يحسب أنه أصبح معصوما من الذنوب والعيوب بسبب أن الدائرين به لم يرحموه بالنصيحة حتى يكف عن غيه ويعود إلى رشده لينقذ نفسه وغيره وما أكثر الذئاب والمخادعين الذين يجملون العيوب ويحسنون القبائح حتى يكون الحق باطلا والباطل حقا وهناك من يصبح محترفا في هذا المجال ليحصل على امتيازات وتقضى له مآرب وحاجات ويأخذ من نصيب الدنيا ومتاعها ما يجعله يحاكي أقرانه الكبار في الإيقاع بالغير أو ممن ينطبق عليهم قول نبينا الكريم: ( يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله عز وجل أبي يغترون؟ أم علي يجترئون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم حيران). أما القادح فإنه ذلك الإنسان الشرير الذي يذم دائما والذي يوظف لسانه أو قلمه في الشر طاعنا في الأحساب والأنساب والأعراض لا يراعي لأحد حرمة ولا يهدأ له بال ولا يرتاح له ضمير إلا إذا رأى شظايا الأبرياء تتطاير في الهواء وكم يكون فرحا مستبشرا إذا سقط الناس وكانت منهم فلتات وسقطات ليتشفى ويتفرج وفي بعض الأحيان نجد بعض القادحين يجعلون من القدح وسيلة من وسائل التعيش والاتجار في الأعراض بالمساومة لترويج بضاعة الغدر والغش والتدليس والتضليل إلى درجة أن بعض ضحاياه ليضطرون إلى إكرامه وإطعامه مخافة شره إذ بإطعامه يقطعون لسانه ليسكت حتى لا يتمادى في إشاعة الفاحشة في الأبرياء وكان العقلاء من الناس يسكتون سليط اللسان بالمال للحد من شره ودائه والمسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء). وقال صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته). وقال صلى الله عليه وسلم: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). فعلى الإنسان إذن أن يكون ناصحا لا قادحا ولا فاضحا ولا متطاولا على الأعراض والعورات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم). لان تبادل النصيحة هو سبيل الفوز والظفر والنجاح ومن حق المسلم على المسلم أن يسدي له النصيحة ويهدي له عيوبه لأن المؤمن مرآة أخيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه) وقال الله تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين امنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) وقال أيضا (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب). وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا مدح يقول: ( اللهم أنت أعلم بي مني بنفسي وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيرا مما يحسبون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تواخذني بما يقولون). ومن أجود وأصدق بيت قيل في المديح هو قول سارية يمدح سيد الخلق محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما حملت من ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمة من محمد ومن أحسن ما مدح به حسان بن ثابت سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم. وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء هذا ونشير إلى أن الحكماء لهم وصايا في باب المدح منها قولهم: ( إياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية ، وأن يعرف الناس ذلك منك ، فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عليك منها ، وبابا يفتتحونك منه ، وغيبة يغتابونك بها ، ويضحكون منك لها ،واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه والمرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده ، فإن الراد له ممدوح ، والقابل له معيب ).