تشتهر لعبة الشطرنج بين العامة والخاصة بتربعها على عرش رياضة العقل. ويتفق المحترفون والمتطفلون على أنها تنشط الذهن وتقوي الذاكرة وتعلم المنطق وتدرب على طول البال وسعة الصدر وبعد النظر. لكنهم سرعان ما تتفرع بهم سبل التصورات والانطباعات وتتشت، ليثني الأولون على حكمتها المتفانية في تسديد فواتير الماء والكهرباء، وليتهمها الآخرون بتبديد الجهد وتضييع الوقت، وأحيانا بتطيير العقل وإزهاق الروح. وإذا كان للناس مذاهب فيما يعشقون، فإن للرقعة خاناتها الناصعة والرمادية وقطعها البيضاء والسوداء وباعها الطويل في الأحلام الكرتونية والكوابيس الكربونية. يعرف عن أبطال اللعبة عموما غرابة الطبع وشذوذ التصرف، لكن منهم من يصل به الهوس إلى وهم الاضطهاد والذهان بعد أن ينقطع الحبل الرفيع الفاصل بين العقل والجنون. ويزخر تاريخ الشطرنج بصفوة من الأبطال المتميزين المأساويين ممن تسببت لهم حدة الهوس باللعبة في دارة قصيرة في أذمغتهم أضرمت النار في ملكاتهم العقلية بدرجات متفاوتة... بول مورفي. أول من اشتهر من الأبطال في تاريخ الشطرنج، خصوصا بعد جولته الأوروبية (59-1858) التي أثبت فيها إلمامه العميق بحيثيات اللعبة وتفوقه المطلق على خصومه. لكنه سرعان ما فقد عقله بعد عودته للولايات المتحدة، ليراه الناس متسكعا في حارات نيو أورلينس وهو يحاور نفسه. أكيبا روبنستاين. كان قد اشتهر إلى جانب خوسي راوول كابابلانكا بإتقانه لمراحل اللعبة النهائية. اضطرته إصابته بفوبيا البشر إلى خروج مبكر من معمعة التباري عام 1932. ثم تدهورت حالته النفسية فيما بعد لدرجة أن النازيين الذين داهموه في بيته إبان الحرب العالمية الثانية بقصد ترحيله إلى أحد معسكرات الاعتقال بسبب أصوله اليهودية، قرروا أن يتركوه وشأنه بعد أن تبين لهم أن الرجل يعيش في منآى عن الواقع في عالم مواز تقطعت فيه كل وجوه الصلة بعالمهم. ألكسندر ألخين. ثالث مثال ورابع بطل عالمي في تاريخ اللعبة. اشتهر بأسلوبه لعبه العدواني وتقنياته البراغماتية السهلة الممتنعة. كما اشتهر بمعاقرة الكحول مما أدى إلى تردي حالته النفسية إلى درجة استدعت معالجته في أحد مستشفيات الأمراض العقلية سنة 1943. كارلوس توري ريبتو. انتهى به المطاف أيضا في مصحة للأمراض النفسية عندما قام بخلع ملابسه بكاملها بعد أن استقل إحدى الحافلات في نيو يورك. ويليام شتاينيتز. اشتهر بين معاصريه بروحه الرياضية المنعدمة حيث يروى عنه أنه لم يتورع عن البصق على أحد خصومه. كان يدعي أثناء إقامته في إحدى المصحات النفسية أنه واجه الخالق في لعبة شطرنج بفارق بيدق وتفوق عليه. فيكتور كورشنوي. روى أنه واجه خصما من عالم الأموات مع احتفاظه بتدوين حركات اللعبة دليلا على صدق ادعائه. بوبي فيشر. تبقى ذكراه عالقة بأذهان العامة قبل المتتبعين للعبة الشطرنج، بعد تنحيه عن التباري لمبررات مختلفة في طبيعتها ولأسباب متنوعة في غرابتها، مباشرة بعد فوزه باللقب العالمي سنة 1972 في مباراته ضد بوريس سباسكي بالعاصمة الإسلندية رايكيافيك. لم تزد صحته النفسية المشكوك في سلامتها إلا تأزما إثر اعتزاله. فتكاثرت في مخيلته أوهام الشك والاضطهاد وترسخ في ذهنه إيمانه بنظريات المؤامرة إلى حد بليغ دفعه إلى انتزاع حشوات الأسنان من فمه حتى لا يتم تعويضها بأجهزة راديوإلكترونية يزرعها طرف ثالث يتنصت عليه ويتحكم في تفكيره. هكذا يكون تاريخ الرقعة قد أفرز نماذجا كثيرة ومتكررة تسلط فيها الوهم على الواقع وذهب الجنون بالعقل. ومع ذلك، تظل جل الإبداعات الفنية التي وصفت هذه الظاهرة سواء في السينما أو في الأدب الروائي، مقتصرة على سرد الأحداث قنوعة بمعاينة الأمر الواقع أمام عجزها المحبط عن حل لغز لعنة الشطرنج. ولعل أبرز هذه الأعمال في فضاء الفن السابع، الفيلم الألماني (أبيض وأسود)، حيث يتقمص الممثل العملاق برونو غانز دور لاعب شطرنج (توماس روزنموند). يروي الفيلم سيرة توماس روزنموند (شخصية مركبة يلتقي في تفاصيلها شتاينتز بفيشر) وقصة مواجهته لبطل سوفييتي (إيغور كوروغا)؛ يتفوق عليه في بطولة العالم، قبل أن تبعده صحته النفسية المنهارة عن رقعة الشطرنج ومساحة الواقع. أما أشهر الإبداعات الأدبية، فقد تكون (اللعبة الملكية) لصاحبها (شتيفان تزفايغ)، والتي يعتبرها كثير من النقاذ لؤلؤة نفيسة في تاج القصة القصيرة ومن أروع ما أنتجته صناعة الأدب العالمي. تروي (اللعبة الملكية) حكاية أحد الهواة الذين أوصلهم ولعهم بالشطرنج إلى مشارف الاحتراف (على غرار توماس روزنموند). في بادئ الأمر، ينقذ الشطرنج حياة الراوي النفسية من الضياع بعد أن اعتقله النازيون، بعد عثوره بمحض الصدفة في جيب معطف أحد الضباط على ما اعتده كتابا يختلسه من صاحبه ليلهيه عن واقع الاستنطاق والحبس. لكن سرعان ما يصيبه اليأس والإحباط حينما ينتبه إلى أن الكتاب كتاب شطرنج، استفزته طريقته الغامضة في تدوين النقلات قبل أن تثير فضوله. هكذا تعدى الراوي محنة الاعتقال بتعلم الشطرنج. لكنه كان يجهل أن لعبة السجون هاته ذات شجون، وأنها ستوصله في مراحل لاحقة إلى خطوط الإدمان وحدود العقل، لن يجد لها علاجا إلا الاعتزال. أما أبغض ما كتب عن اللعبة، فقد يكون رواية (الدفاع)، حيث يروي (فلاديمير نابوكوف) بأسلوب ثقيل-فوق-العادة قصة أستاذ الشطرنج لوجين الغريبة مع خطيبته ومع اللعبة التي لم تنته على خير، بعدما تسبب في إصابته بالجنون ما رآه بعين الوعي من أعماق اللعبة السحيقة وأهوالها المروعة. روايات وروايات، اختلط فيها النبوغ والعبقرية بالاضطراب النفسي وفقدان العقل، وتفوقت فيها أحداث الواقع على سيناريوهات المبدعين. تسهل بعدها مساءلة الرقعة ومحاسبة القطع الخشبية في قضايا فساد العقل المتكررة. لكن يبقى المسؤول الأول والأخير عن ذهاب العقل هو العقل نفسه، عندما يوظف صاحبه كل طاقاته في هوس واحد، تستشهد فيه جيوش خشبية في ساحات خشبية. http://gibraltarblues.blogspot.com )