للأسف إنها سياسةٌ فلسطينية وليست إسرائيلية، سياسةُ حرمانٍ وتجويعٍ وإذلالٍ ضد فئاتٍ كثيرة من الشعب الفلسطيني، سياسةٌ يتبعها وينفذها بعض المتنفذين في قيادة الفصائل الفلسطينية، ممن فتح الله عليهم من الأموال والخيرات والنعم ببركة الشهداء والأسرى والمقاومين، وبفضل فلسطين التي بارك الله فيها وفيما حولها، وجعل أهلها مرابطين فيها إلى يوم القيامة، وهم يعلمون أن ما هم فيه من خيرٍ ونعيمٍ مقيم، ومقامٍ وجاهٍ كريم، ليس بما كسبته أيديهم، وليس من كدهم ولا عرقهم، ولا مما عملته أيديهم، فهم لم يبذلوا فيه جهداً إلا جمعه وتخزينه، ثم النظر في إعادة توزيعه وفق أهواءهم على الطوافين حولهم، والعاملين معهم، ممن آمنوا بأستاذيتهم، وصدقوا بعبقريتهم، واعتقدوا أنهم الأفضل لقيادة المرحلة، وتجاوز الأزمات، وتخطي الصعاب، ومواجهة التحديات، وما كان لهذه الصفات أن تكون لولا بعضاً من المال في أيديهم، أحسنوا به شراء الناس، واسترقاق الخلق، وتوظيف المحتاجين، والساعين إلى منصبٍ أو موقع، والمتطلعين إلى وظيفةٍ أو مركز، ليكثروا به سوادهم، ويزيدوا بهم عدد الهتافين باسمهم، والمصفقين لهم، والمؤمنين بأنهم الخيار الأوحد، الذي لا بديل عنه، ولا شبيه له، ولا استغناء عن قدراته، إذ لا نصر بدونه، ولا فوز بغيره، فعليه وحده يتنزل نصر الله. هؤلاء المتربعين على الكراسي الوثيرة، والمتمسكين بالمناصب والمكاسب، والمنتفعين بالمحن والمصائب، والمتربحين من الدماء والشهداء، والمستفيدين بما أفاء الله على شعبهم من نعمٍ وخيراتٍ وأموالٍ هي لدعم صمودهم، وتثبيت حقهم، ومواصلة نضالهم، واستمرار مقاومتهم، وهي ليست لشراء واستئجار البيوت الفخمة، ولا المزارع الضخمة، وليست لركوب السيارات الفارهة، والسفر إلى كل الدنيا على متن أفضل الطائرات، والإقامة في أكثر فنادق العالم شهرةً، هم ومن معهم، من الأتباع والمرافقين، ومن المصفقين والمؤيدين، هؤلاء لم يعد همهم استعادة الأرض، وعودة الأهل، وتطهير المقدسات، وطرد الاحتلال، إنما همهم أن تبقى امتيازاتهم، وأن تحفظ هالاتهم، وأن يهتف لهم ويحتفى بهم، وأن ترفع صورهم وتقدس أسماؤهم، وألا تزول مظاهر ملكهم وأمارات عظمتهم، وألا يطال بيوتهم أذى، أو أبناءهم محنة، أو أشخاصهم مصيبة، وأن تبقى بيوتهم عامرة، وأسرهم عن المحنة والابتلاء بعيدة، فلا خطر يحدق بهم، ولا موت يلاحقهم، ولا مصيبة تتربص بهم، ولا تصد في وجوههم الأبواب، ولا تغلق دونهم الحدود والبوابات، ولا يضطرون للانتظار مع أهلهم، والمعاناة كشعبهم، فلا تلوحهم الشمس بحرارتها، ولا يلسعهم الشتاء ببرده. كثيرون هم الفلسطينيون الذين أوقفوا حياتهم لفلسطين، وضحوا بأعز ما يملكون من أجلها، وفي سبيل تحريرها واستعادتها من المحتلين الغاصبين، فقدموا أولادهم شهداء، وسبقهم إلى الجنة آباءٌ وإخوة وأخواتٌ وأخوالٌ وأعمام، وكثيرٌ من الأحبة والأهل والجيران، محتسبينهم شهداء عند الله، وعد أن يجمعهم في مقعد صدقٍ مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وعشرات آلافٍ آخرين من عامة الفلسطينيين، ممن حملوا الحجر والسكين والمدية والبندقية، ثم العبوة والقذيفة والصاروخ، وممن ساروا في شوارع فلسطين متظاهرين يرشقون الإسرائيليين بالحجارة، يقتفون آثارهم، ويقطعون عليه الطريق، ويواجهونهم بكل ما يملكون من حجارة فلسطين المباركة، فكان الاعتقال قدرهم، والسجن مآلهم، فقضوا فيه سنواتٍ طويلة، فمنهم من مَنَّ الله عليه بالحرية، ومنهم من بقي في سجنه شامخاً، عزيزاً أبياً، ينتظر الحرية أو النصر، ومئاتُ آلاف الجرحى والمصابين، ممن لونوا ثرى فلسطين الطاهر بدمائهم، وممن سكن الرصاص أجسادهم، أو بترت القذائف أطرافهم، فلازمتهم الإصابة، وصاحبتهم المعاناة والألم، دون أن ينتظر أحدهم أجراً من الخلق، أو عطاءاً من البشر، أو منحةً من مسؤولٍ أو قائد، فقد كان الأجر من الله يحدوهم، والأمل في جنان الخلد يدفعهم. هؤلاء وغيرهم ممن هم في السجون والمعتقلات، يتحدون السجان، وينتصرون على الجلاد، ويواجهون بكبرياء محاولات العدو لتركيعهم وكسر إرادتهم، وممن هم برسم الشهادة ينتظرونها بشغف، ويعملون لنيلها بصدق، ولا يأبهون بالعدو إن لاحقهم بالموت، أو هددهم بالقتل، فالموت عندهم شهادة، وهي من الله انتقاء واختيار، هؤلاء هم الذين زينوا تاريخ فلسطين، وحفظوا حقها، وخلدوا اسمها، وأبقوا على رايتها مرفوعة، وأعلامها خفاقة، وسمعتها طيبة، نرفع لهم القبعة، ونؤدي لهم التحية، ونحني لهم القامة احتراماً وتقديراً وتبجيلاً، لم تغرهم الدنيا، ولم تخدعهم ببريقها وزخرفها، حافظوا على ارتباطهم بالأرض والوطن، واقتربوا من أهلهم، والتحموا مع شعبهم، وصدقوا في نصحه، واخلصوا في العمل له، ساندوا فقيرهم، وأعانوا محتاجهم، وكانوا عوناً لكل فلسطيني، فلم يتأخروا في أداء حق، أو تسليم راتب، أو تقديم مساعدة، فهم يدركون أن هذا الشعب العظيم هو صانع النصر، وقاهر العدو، فهو الذي صنع ملحمة الصمود والثبات، وهو الذي أعاد بالخزي آلة الحرب الإسرائيلية خائبةً مدحورة، فهم أحق بالعون والنصرة والتأييد، وهم الذين ندين لهم بالحب والوفاء والتقدير، رغم أنهم يشعرون بأنهم غبنوا وظلموا، وأن حقهم ضاع، وعيشهم ضاق. أما سدنة برنامج الظلم، ورواد سياسة التجويع والحرمان والإذلال، الذين استمرأوا المظاهر البراقة، والاستقبالات الحاشدة، والهتافات الصاخبة، وحافظوا على ذواتهم علية، ونفوسهم متعالية، وأشخاصهم متكبرة، واختالوا بين حراسهم، وتباهوا في سياراتهم، وتخفوا تحت الخيام، مخافة الشهادة التي أعدها الله لخيرة خلقه، فإنهم لا يلتفتون إلى من كان سبباً في رفعتهم، وعاملاً في تقدمهم، ممن كانت لهم الأسبقية والأقدمية، عملاً وتضحية، ولا يأبهون بالتضحيات التي قدموها، والآلام التي تكبدوها، والمعاناة التي احتسبوها، فيحرمونهم من حقوقهم، ويزيدون في معاناتهم، ويضيقون عليهم سبل العيش، بينما يحثون المال لمن ناصرهم، ويعطون بلا حسابٍ لمن أيدهم، ويكرمون من نافقهم، ويفتحون خزائن المال التي هي لشعبهم وأهلهم، لغيرهم ممن لا يعرفون ما هي المعاناة، ولا يدركون معنى التضحية، ولا يعرفون عن فلسطين إلا اسمها، وربما يجهلون رسمها، وينكرون سحنة أهلها، فإن أيامهم مهما طالت قصيرة، ونعيمهم مهما نَعُمَ فهو خشن، وملكهم مهما طال فهو إلى زوال، وظلمهم مهما طغى فإن الحق له بالمرصاد. فلسطين ... الأرض الطاهرة المباركة، التي حفظها أهلها بجوعهم وألمهم ومعاناتهم، وصبروا فيها على ما أصابهم، واحتسبوا لله ما قد حل بهم، وأقسموا أن يستعيدوا فيها حقهم، وأن يخرجوا المحتل من أرضهم، يعلمون أن أرضهم مباركة مقدسة، وأن قضيتهم عادلة طاهرة، وأن مقاومتهم باقية وصامدة، وأن الله سيحفظ حقهم فيها، وسيقيض لهم رجالٌ يصدقون الله عهدهم، ويكونون مخلصين لأهلهم، صادقين مع شعبهم، يشعرون بمعاناتهم، ويقفون معهم، ويناصرونهم ولا يخذلونهم، ويؤدون إليهم الأمانة ولا يخونونهم، ويمنحونهم حقهم ولا يحاربونهم في لقمة عيشهم، ويعدلون بينهم ولا يظلمون، ويساوون بينهم ولا يميزون، ويتواضعون لهم يستكبرون. د. مصطفى يوسف اللداوي