قبل الحديث عن ما آلت إليه مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر من تطورات وتداعيات خطيرة،أثبتت عربياً أننا نعيش في عصر ما قبل الأمة،وكذلك دللت هذه المباراة"ملحمة أم درمان" أن واقع المجتمعات العربية مفارق للزمن وغارق في غيبوبة مزمنة،بل ومتخالف مع منطق التاريخ ووقائعة،وإذا صح القول حسب تعبير الكاتب الكبير هربرت ماركوزا أن مجتمعات الوفرة والديمقراطية الصناعية اختزلت أفرادها في بعد واحد،فإن النظام الرسمي العربي وتشكيلاته الأمنية والأبوية قد سحقت مواطنها العادي إلى ظل إنسان خالي من الأبعاد،وأسكنته وادي غير ذي زرع،وألزمته بعلاقات إنتاجها للفساد والقهر والفقر. هذا واقع المجتمعات العربية وما فعلته فيها سياسات وممارسات أنظمتها،تلك الأنظمة التي خطت خطوات واسعة وكبيرة،نحو التحلل من ارتباطاتها القومية،والتغير البنيوي الذي أصاب تركيبة تلك الأنظمة،يؤشر الى ذلك،حيث نشهد حالة من الاصطفاف العربي الرسمي في أحيان كثيرة مع القوى المعادية ضد مصالح الأمة العربية،ولنا في العراق وفلسطين ولبنان أمثلة وشواهد،وبالتالي ما ينسحب على السياسة يصبح منسحباً على كل شيء فعملية تخريب الوعي تطال كل شيء فكر وثقافة وتربية وقيم وأخلاق وإعلام ورياضة وفن وسياسة وغيرها. والنظامين في مصر والجزائر وجودا ضالتهم في هذه المباراة من أجل تحشيد وتجييش أوسع التفاف جماهيري حول نظاميهما،فالنظام المصري مقبل على مرحلة توريث والنظام الجزائري يريد قك العزلة حوله،والنظامين بدلاً من أن يتوجها الى شعبيهما في أن هذه المباراة بين شعبين أخوين ينتميان الى أمة عريقة،وعملية التشجيع والمناصرة يجب أن تكون حضارية،بعيداً عن أي شكل من أشكال العنف الجسدي واللفظي أو السلوك الخارج عن حدود اللياقة والأدب،أو الهتافات والشعارات التوتيرية والتي من شأنها خلق روح وأجواء عدائية،وجدنا أنهما أطلقا العنان لكل أجهزة إعلامهم وأقلامهم الصحفية،لكي تشعل فتيل الأزمة،وأن تمارس كل أشكال وأنواع القذف والتحريض والبلطجة والزعرنة وبث الإشاعات،وكأن الجزائر ومصر ليسا بلدين تجمعهما وحدة الهدف والمصير والتطلعات،بل هناك ومن كلا البلدين من طالب بفك عرى بلاده مع القومية العربية،تحت يافطة الكرامة والقطرية وعدم الإنتماء للعروبة،وهذه مؤشرات على درجة عالية من الخطورة،حيث أن دعاة القطرية والتفكيك في كلا البلدين،عملا على توظيف ما رافق تلك المباراة من أحداث وتداعيات لخدمة أغراضهم وأهدافهم،في التنظير للقطرية والعصبيات القبلية والجهوية والعشائرية،وبما يشير إلى ان الأنظمة الشمولية والديكتاتورية،والتي تحكم شعوبها بالحديد والنار،أرادت لها أن تنفس في السياسة وبما يخدم أهدافها ومصالحها،ففي الوقت الذي لا تكف فيه الجماهير عن توجيه سهام نقدها الى تلك الأنظمة وسياساتها،فهي استخدمت في هذه المعركة لخدمة تلك الأنظمة،ناهيك عن أن هناك غياب واضح لقوى البديل في تأطير وتنظيم تلك الجماهير لخدمة القضايا العروبية والقومية،ووجدنا أن تلك الجماهير تصرفت بسلوك أقرب الى الرعاع وقطاع الطرق،وهي تعيش حالة من تشوه وتسطيح الوعي،وكل الأجهزة الرسمية وغير الرسمية في كلا البلدين والتي زج بها في هذه المعركة،يجعلنا نتساءل،إذا كان هناك من يهمه كرامة بلده أو دوره؟،فلماذا لا نرى تلك الحالة من التجيش والتحريض ضد من يهتكون عرض الأمة ويغتصبونها يومياً في العراق وفلسطين وغيرها؟،فها هو الأقصى يجري إقتحامه يومياً من قبل الجمعيات الاستيطانية المتطرفة،وهو مهدد بالإستيلاء عليه وتقسيمه،وكذلك يحاصر شعبنا في القطاع وتمنع عنه كل مستلزمات الحياة الأساسية،فأين تلك مئات الألوف من الجماهير العربية من تلك الأحداث التي تضرب الأمة في صميمها،وهذا الذي جرى وحدث يجعلنا نتساءل بشكل جدي،هل هذه الأحداث تعبير عن أزمة قيادة،أم أزمة شاملة تطال القيادة والشعب؟،وواضح أن تلك الأزمة شمولية بكل أبعادها،وتدلل على مدى التغيرات التي حدثت في بنية وتركيبة أنظمة النظام الرسمي العربي،والتي أصبح مركز الرأسمال العالمي يتحكم في قرارها السياسي والإقتصادي،وبحيث غدا رأس النظام بمثابة والي أو حاكم يتبع المركز الرأسمالي،وترتبط مصالحه بمصالح هذا النظام،وفي المقابل هناك تراجع كبير في دور وتأثير قوى المعارضة،والتي لم تستطع أن تشكل حاضنة وقائدة للجماهير،وهناك شعور ينتاب الجماهير العربية بأن تلك الأحزاب بمختلف ألوان طيفها السياسي الإسلامي والقومي والثوري والأشتراكي،تتماهى وتتقاطع كثيراً مع سياسات الأنظمة القائمة،وهمها الأول والأخير الدفاع عن مصالحها ودورها وضمان حصتها من الكعكة،وهي ليست على استعداد لخوض معارك جدية مع الأنظمة،لا في القضايا والهموم المباشرة لشعوبها ولا في القضايا القومية،ونحن على قناعة تامة،أن هذه الأحداث ما كان لها أن تحصل،لولا حالة الارتداد وتشويه الوعي والتغيرات العميقة في بنية وهيكيلة الأنظمة الرسمية، والسائرة نحو الخصخصة للقطاع العام،وتعميق حالة الفقر والجوع،ونشر ثقافة الاستهلاك،وغياب القوى صاحبة المشروع البديل،فرب تساءل آخر مشروع،فهل لو كان كل من الزعيمين الراحلين عبد الناصر وهواري أبو مدين على قيد الحياة لوقعت مثل هذه الأحداث؟،وحتماً ستكون الإجابة لا قاطعة. واضح إن تلك التصرفات الغوغائية للجماهير والسياسات الرسمية للأنظمة،هي التي دفعت نحو تلك الحالة من الشعبوية والتصرفات التي هي أقرب الى الهمجية والوحشية،وهذا يعني أن تلك الحالة من الإنفلات والسلوك البدائي والقبلي،ستتعزز وتتعمق اذا لم تجري عملية مراجعة شاملة،مراجعة تطال الفكر والثقافة والتربية،تربية وثقافة تغلب مصالح الأمة والقومية على المصالح القطرية والجهوية،وهذا بحاجة الى فعل وإرادات وحوامل تنظيمية مخلصة وملتصقة بالجماهير وهمومها،وتشكل حاضنة وقائدة لكفاحها ونضالاتها،وأيضاً قوة مثل ونموذج للجماهير في تلك المعارك،وبدون ذلك فإننا لن نكون أمام فوضى خلاقة فقط تطال العالم العربي من محيطه الى خليجيه،بل نحو حالة شاملة من الارتداد،نحو الانغلاق والعصبوية وثقافة الدراويش والمساطيل،وتحلل وتفكك وتذرير ليس على مستوى القطر والبلد الواحد،بل على صعيد المحافظة والبلدة والعشيرة والقبيلة الواحدة،وسنشهد ليس حالة انحطاط،بل ما هو أسوء من الانحطاط،من احتراب قبلي وطائفي ومذهبي،على غرار داحس والغبراء في الجاهلية.