كشفت «موقعة» أم درمان «التاريخية» بين الشقيقين اللدودين، مصر والجزائر، عن تطور هام في عمل أجهزة المخابرات العربية، التي اشتهرت بإبراز «حنة يديها» في شعوبها، فصارت، فجأة، رحيمة بهذه الشعوب، تعانقها وتقبلها وتقدم إليها الدعم المادي والمعنوي وتشحنها، في نفس الوقت، ضد الخصم الرياضي الذي تحول إلى عدو حقيقي ينسيهم عدوهم التاريخي المرابط عند حدودهم والذي تابع أشواط «الموقعة» من «إسرائيل»، التي تحتل فلسطين، بابتسامة هازئة، وهو يفرك يديه ويكاد يطير من الفرح. وفي الوقت الذي يرتفع فيه علم الكيان الصهيوني مرفرفا فوق قاهرة المعز، صار علم الجزائر يحرق من قبل بعض المحامين المصريين ويداس بالأقدام ويدعو «رجال إعلام» متوترين إلى طرد الجزائريين المقيمين بمصر، كما دخلت جهات رسمية جزائرية في عملية رد فعل مبالغ فيها ضد المصريين، والنتيجة هي خلق «أعداء» وهميين من أجل التغطية على الأزمات الداخلية وحشد الجماهير وراء «الزعيم» الأوحد الذي يريد أن يبقى جالسا على كرسيه إلى الأبد أو إلى أن يدفن معه في نفس القبر تحت «هرم» واحد، سيكتشفه علماء الآثار بعد آلاف السنين. المباراة الحقيقية التي أخفتها «موقعة أم درمان» في السودان هي تلك التي تتعلق بالانتخابات الرئاسية في البلدين، وهذا شيء يتفق فيه البلدان على طول الخط: مبارك يريد أن يورث الحكم لولي عهده جمال ويوظف «مباراك» في كرة القدم، عفوا «مباراة» في كرة القدم لهذا الغرض، والرئيس الجزائري يستغل الظرف، مدعوما بعسكره، من أجل توريث الحكم لنفسه مدى الحياة. هذه هي الحقيقة وراء الضجة المفتعلة من قبل الجانبين، والتي وظفت فيها حشود بشرية بطريقة تجعلها شبيهة بالآلات المسيرة عن بعد. بعبارة أخرى، فالأنظمة العربية هي التي تلعب الكرة بشعوبها، وبدل أن يخرج الناس للتظاهر في الشوارع مطالبين باحترام «مباراة» الديمقراطية الحقيقية ومدافعين عن الكرامة والحرية، يتحولون إلى سند للاستبداد ولأنظمة أخلفت كل مواعيدها مع التاريخ، ما عدا موعد موقعة أم درمان «التاريخية». النظامان المصري والجزائري استغلا الفرصة لتلغيم مشاعر شعبيهما بأحقاد جديدة تجعلهما يغضان الطرف عن الأحقاد الحقيقية التي لا تخفيها الأنظمة الاستبدادية تجاه شعوبها: المهم لديها هو أن تستمر في الحياة حتى وإن هلكت الشعوب وماتت فقرا وجهلا وجوعا. فهي لن تخسر شيئا، لأنها دخلت منذ زمن بعيد غرفة الإنعاش المركز، وتتنفس اصطناعيا عبر أنابيب المخابرات والجيوش الرئاسية وقوات القمع. وفي هذه الحالة، لا يعني الانزعاج المصري من فوز المنتخب الجزائري مرتين (في الجزائر والسودان) سوى أن هناك من راهن على «التأهيل»، تأهيل المنتخب المصري لكأس العالم، قصد تحويله إلى «تأهيل» آخر: «تأهيل» جمال مبارك لخلافة والده، علما بأن الفريق الجزائري، وبمنطق الكرة وليس السياسة، يستحق انتصارا حصل عليه عن جدارة، دون أن يلمس أحد مهاجميه الكرة بيده كما فعل تييري هنري في مباراة بلاده ضد إيرلندا المظلومة. وبما أن المسألة تحولت في النهاية إلى معركة سياسية داخلية بامتياز، فإن المرء لا يمكنه إلا أن يتساءل: ماذا لو جرى تحويل عملية الشحن الجماعي للشعب المصري من الشعب الجزائري (الذي لا يمكن اعتباره مسؤولا عن سلوك حفنة من المشجعين الغاضبين على قذف حافلة منتخبهم بالحجارة في القاهرة وإصابة بعض لاعبيه) إلى التواجد الصهيوني في مصر؟ أو في غزة التي تعتبر مصر إلى حد الآن مسؤولة عنها، لكنها تركت أهلها يواجهون مصيرهم لوحدهم في مواجهة العدوان والإجرام الحربي الصهيوني واتهمتهم ب«المقاومة»؟