يسهر التاريخ المؤسساتي منذ عقود بعناية مركزة على إنعاش سياسة الطمس والتزييف والتعتيم والتضليل بغرض إعادة كتابة التاريخ بما يقع على هواه وحشوه بما يتمناه، ليفرضه على الذاكرة الجماعية المغربية بحد السيف وضربة الهراوة وغياهب المعتقلات -التي لا وجود لها في دولة الحق والقانون واستقلالية القضاء وهلم جرا، إلا في مخيلة أعداء المغرب المريضة من جزائر وبوليساريو وإسبانيا ومنظمات الحقوقيين المهلوسين وقس على ذلك- بعد تلفيق الجنح الجاري بها العمل والتهم الخارقة للعادة وتكرار الكذبة حتى يصدقها المفتري قبل المتلقي. وفي ظل عنتريات المخزن التأريخية وادعاءاته السريالية، يستعسر على المغاربة إشباع فضولهم الطبيعي بمعرفة أحوال المقاومين والمناضلين الذين ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل خدمة الوطن، على غرار اللازمات المكرسة والعبارات المجترة. من هؤلاء المقاومين من دفع حدود التضحية إلى تداعياتها النهائية والمطلقة، لكن إدراج أسمائهم في لوائح المخزن السوداء جعلهم يقبعون على هامش السيرة وفي مساحات الظل خارج شعاع كشاف التاريخ الفولكلوري. وهكذا تغرب شمس الذاكرة على سيدي احمد الحنصالي (المعروف بأسد تادلة) وقد اختزلت سنوات نضاله في (قصة بقرة رفض مستخدمه أن يقدمها له أجرا عن عمله السنوي كما كانا قد اتفقا على ذلك من قبل) وحفنة من مغامرات القرصنة وقطع الطريق، مرورا باتهامه بالقتل السيكوباتي. كما يختزل أرشيف المخابرات المغربية حياة شيخ العرب في نقمته المزعومة على النظام الملكي العلوي بعد أن خابت آماله في الحصول على وظيفة رجل أمن بعيد الاستقلال، لتتحول سيرته إلى سلسلة طويلة من أعمال السرقة والقتل والإرهاب، في هروب مستمر من مطاردات البوليس الدونكيشوتية. من يبحث عن سيرة شيخ العرب لا يعثر لها على أثر في كتب التاريخ. ولا يجد ضالته - ولا حتى خيال ظلها- إلا في أرشيف مديريات مكافحة الشغب جنبا لجنب مع المشتبه فيهم من اللصوص والقتلة والمغتصبين، أو مقتضبة في فقرات قليلة في كتب محظورة. فمن يكون يا ترى هذا الرجل الغامض المغضوب عليه حتى بعد مرور ما يناهز نصف القرن على تاريخ وفاته؟ ولد أحمد (حماد) بن محمد بن إبراهيم بوشلاكن، المعروف أيضا باسم أحمد أكوليز، والذي اشتهر بلقب "شيخ العرب" أو "الحاج"، في سنة 1927 بدوار أكوليز من قبيلة إيسافن السوسية الواقعة بإقليم طاطا جنوب شرق المغرب. في سن الثانية عشرة، سافر سيرا على الأقدام مسافة تزيد عن أربع مائة وتسعين كيلومترا، قاصدا مدينة الرباط ليساعد والده في محل التجارة. عمل احماد بعد ذلك في مدرسة كسوس طباخا ثم حارسا عاما في المرحلة الأولى من نشاطه النضالي الممتدة على مدى عقد من الزمن (بين سنتي 1944 و 1954). في سنة 1951، تلقي عليه سلطات الاستعمار القبض. ويعيد التاريخ نفسه في حياته مرة أولى، ويغمره شعور من يعيش أحداثا سبق وأن وقعت (ديجا فو)، عندما تكون عقوبة المستعمر أن يعاود قطع نفس المسافة التي قطعها منذ اثني عشرعاما سيرا على الأقدام، مقيد اليدين مكبل الرجلين، في رحلة العودة لمسقط الرأس بدوار أكوليز، حتى يكون عبرة لكل من تسول له نفسه اختيار طريق المقاومة الشاق و الطويل... في صيف عام 1954، في وقت بدأ فيه الصراع يحتدم بين رجال المقاومة والاستعمار، يلقى عليه القبض من جديد بتهمة حمل السلاح وتنظيم محاولات اغتيال. يرفض دفاع أحمد رضى كديرة في المحكمة، ويودع في سجن القنيطرة المركزي. في فترة السجن هاته، يكتسب أحمد أكوليز لقب شيخ العرب. ويكشف المناضل محمد لومة قصة هذا اللقب الذي ظل لصيقا بأسطورة الرجل فيما تبقى من أيام حياته وحتى من بعد مماته. حيث جاء في شهادته أن أحمد أكوليز أضرب عن الطعام عندما لاحظ أن بعض السجناء (من الرباط ، فاس ومكناس) يتمتعون بمعاملة خاصة ويأتى لهم بوجباتهم من أحد مطاعم المدينة على خلاف باقي السجناء. فما كان من رفاق السجن إلا أن أطلقوا عليه لقب "شيخ الإسلام" بسبب تدينه وحسن خلقه. لكنه رفض هذا اللقب، فبدلوه إلى "شيخ العرب". على خلفية عودة محمد الخامس من المنفى ومفاوضات إيكس ليبان، تم إطلاق سراح السجناء المحظوضين (من الرباط ، فاس ومكناس). ديجا فو...ينال المغرب استقلاله. ولأن السجون ذات شجون، يظل شيخ العرب قابعا في زنزانته مع القابعين المغضوب عليهم من السوسيين والريفيين والبدو العرب. ينتظر شهورا ينفذ بعدها صبره، فينظم هروبه من السجن في ماي 1956، لتبدأ المرحلة الثانية من نشاطه النضالي. لم يكن مرد نقمته على مغرب ما بعد الاستقلال راجعا لخيبة أمله في الحصول على وظيفة رجل أمن كما يدعي التاريخ الرسمي وأرشيف مكتب محاربة الشغب في المخابرات (على حسب ما ورد في كتاب (السر)، لمؤلفه أحمد البوخاري، العميل السابق في المخابرات المغربية، المشكوك في صحة شهادته). إنما كان متذمرا رافضا لما آل إليه وضع البلاد بعد شبه-الاستقلال وخيانة الساسة وعلى رأسهم حزب الاستقلال الذي قبل بتازلات مفاوضات إيكس ليبان، حيث همشت فرنسا من المقاومين عمالقتهم واستدعت لطاولة التفاوض من الخونة أقزامهم. ولم تتوقف خيانة حزب علال الفاسي بسلبيته وانتهازيته عند هذا الحد، بل تحولت إلى خيانة فعلية عندما تحالف مع المؤسسة الملكية ضد مصلحة الشعب، وتتبع معها تتبع السفاحين السيكوباتيين فلول جيش التحرير والمقاومين الذين أبوا أن يضعوا السلاح إلا بعد زوال الاستعمار عن كل شبر من ربوع البلاد. وهكذا شارك حزب الاستقلال بصورة مباشرة في عمليات اغتيال ألمع النجوم في سماء التضحية الوطنية العاتمة، من قبيل عباس المسعدي (المسؤول عن جيش التحرير في الشمال) وأحمد الطويل (زعيم الهلال الأسود) وغيرهما كثيرون. ويروي مومن الديوري في كتابه (حقائق مغربية) في شهادة مؤثرة عن صديقه شيخ العرب، أنه رآه يبكي مرة واحدة عندما شاهد علال الفاسي في استقبال بالقصر الملكي كان ينقله التلفزيون المغربي وهو يركع للملك الراحل الحسن الثاني ليقبل يده. يعيد التاريخ نفسه في حياة شيخ العرب عندما يرى أن المغرب "المستقل" يكافئ الخونة وعملاء الاستعمار بأرقى الرتب في أسمى الوظائف، على جهل بعضهم وأمية غالبهم، ويضع مستقبل الوطن على كف عفريت مصاب برعش باركينسوني؛ بوضعه ثقته العمياء في فساد إدارتهم وسوء تدبيرهم. ويُشرع في تشكيل الجيش الملكي بتجنيد الخونة وعملاء الاستعمار والذين رفعوا الراية البيضاء من جيش التحرير، ويؤطره مرتزقة الجيش الفرنسي من "أبطال ديان بيان فو". لم يجد شيخ العرب، بعد هذا كله، بدا من الانخراط في جيش التحرير الوطني بالجنوب في سنة 1957، بغية مواصلة الكفاح ضد الاستعمار واسترجاع الأقاليم الجنوبية. جاء ردع ثورة الريف (1958-1959) بطريقة تفننت في الهمجية والوحشية لترسخ شيخ العرب في اعتقاده بأن مغرب ما بعد الاستقلال وما قبله مغربان متطابقان لا يختلفان إلا في التسمية. إذ استمرت معاناة الشعب وتراكم ضحايا الفقر والجوع والجهل والظلم والاحتقار والاستفزاز والاضطهاد والتهميش يوما بعد يوم، بعد أن فوض المستعمر للمخزن كل صلاحياته القمعية وسلطاته الاستبدادية. تحول شيخ العرب إلى "أسطورة حضرية" يحبه أبناء الشعب الذين لا يتورع في أن يهب لنجدتهم والدفاع عنهم دون أن يعتد بحساب الأضرار وتدبير المخاطر، و يبغضه رجال الأمن الذين ما فتئوا يطاردونه محبطين مطاردة الأشباح بعدما أذلهم في أكثر من مناسبة بفلتانه الزئبقي وقدراته العبقرية في فنون الخداع و التنكر. ومن النوادر التي تروى عنه أنه استطاع عبور إحدى الثكنات بزي عسكري دون أن ينتبه إليه أحد. تفاقمت سوابقه بتهم السرقة الموصوفة والإرهاب في ملف سمين عكف على تعليفه رجال الشرطة...في سنة 1959، قام باغتيال رجلين من جهاز الأمن بعدما اشتكى له أهالي منطقة سوس من بطشهما وتعسفهما (وكان أحدهما قاتل علال بن عبد الله، الصباغ البسيط الذي حاول اغتيال ابن عرفة في 11 شتنبر 1953)، كما أصدر حكما بالإعدام في محكمة شعبية بحق ضابطين من جيش التحرير اتهما بسلسلة من جرائم الاغتصاب في الجنوب. كانت قطيعته مع جيش التحرير حينها أمرا مستهلكا بعد أن تزايدت انتقاداته اللاذغة لزعمائه. فقام بتأسيس ما عرف بالجبهة المسلحة من أجل الجمهورية المغربية. إثر هذه التطورات العنترية، أصدرت محكمة تارودانت في حقه حكما غيابيا بالإعدام، اضطره إلى أن يعيش تحت رادار "كاب 1" - جهاز الشرطة السرية- الذي جعل اقتفاء أثره أولى أولوياته منذ تأسيسه عام 1960. في سنة 1962، يجتمع شيخ العرب على مضض بابن بركة في لقاء تاريخي نظمه صديقه مومن ديوري بعد أن نجح في إقناعه بأن التحالف مع الزعيم اليساري من شأنه أن يعرف بحركات الكفاح المسلح خارج الحدود المغربية ويمنحها تأشيرة الاعتراف الدولي في إطار أنشطة مؤتمر القرات الثلاث*. في سنة 1963، يفتعل المخزن مؤامرة ضد حياة الملك الحسن الثاني للتخلص من صداع رأس اليسار المغربي المؤرق وتصفية فلول جيش التحرير في الجنوب، وينظم محاكمة هوليودية يتلقى فيها شيخ العرب حكما غيابيا بالإعدام (بمعية ابن بركة) في 14 مارس 1964. يلجأ شيخ العرب في ساعة البلبلة لجزائر ابن بلة بغية تلقي الدعم العسكري. لكن الرياح تأتي بما لا تشتهيه السفن وتتغير معطيات السياسة المغربية الجزائرية بعد انتهاء حرب الرمال بتوقيع السلام بين الحسن الثاني وابن بلة. وينزل الرئيس الجزائري عند رغبة رفاقه اليساريين من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذين سعوا جاهدين لإقناعه بأن يحتفظ بشيخ العرب بحجة أن عودته للمغرب ستشكل خطرا حقيقيا على حياة بعض أعضاء الحزب. في أبريل 1964، يعود للمغرب سرا عن طريق ولاية بني أدرار الحدودية، برفقة عمر ناصر الفرشي- أحد زعماء شبكات المقاومة في الدارالبيضاء- الذي سبق وأن تلقى حكما غيابيا بالسجن المؤبد بتهمة التآمر على حياة الملك في 1963، وحكما غيابيا آخر بالإعدام في (قضية بنحمو لوفاخري). وتأتي الخيانة من الأقربين -تماما كما توقع شيخ العرب وكان يروق له أن يردد على مسامع رفاقه في أكثر من مناسبة- حين أبلغ أحد أعضاء الكومندو صديقه بوعبيد بعودته. فيجتمع هذا الأخير بالمجلس التنفيذي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ليقرر ببرودة إجرامية خيانة شيخ العرب وتقديمه قربانا للحسن الثاني على مذبح الحسابات السياسية. كانت هذه الخيانة رسالة صريحة للملك بأن زمان الكفاح المسلح (أو بلغة المخزن، الشغب والإرهاب) قد ولى، وأن اليسار يسار جديد تائب، ضد سراب الثورة والجمهورية ومع واقع الديموقراطية، كما يراها الملك، في إطار ملكية دستورية ديموقراطية اجتماعية. في 7 غشت 1964، يطوق رجال الأمن البيت الذي كان يحتمي به شيخ العرب ورفاقَه، فيحدث تراشق بالأسلحة النارية مع رجال الأمن. يردى على إثره مبارك بوشوا قتيلا. يصاب إبراهيم مسليل الحلاوي بجروح بليغة. ويختار شيخ العرب الموت "بالرصاصة الأخيرة" التي لطالما حدث رفاقه عنها. ويعيد التاريخ نفسه مرة أخيرة في حياته لتقفل الحلقة، حين يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام دكان صغير لا يختلف كثيرا عن الدكان الذي ساعد فيه والده عندما قدم للدار البيضاء لأول مرة منذ ربع قرن تقريبا. ديجا فو... تبدد حلم أوفقير بأن يطوف ربوع المملكة بمعية شيخ العرب في قفص حديدي. والتحق أعضاء كومندوهات شيخ العرب-مومن الديوري بتنظيم الفقيه البصري لمواصلة الكفاح المسلح، إلى أن اعتقلوا وعذبوا، وحوكموا وأعدموا**. * راجع مقالة (لقاء سريالي بين المهدي بن بركة وشيخ العرب) في جريدة الشرق الآن. ** تمت الاستعانة في تركيب هذه السيرة -التي تظل ناقصة- بما كتبه مومن الديوري، محمد لومة، كريم بوخاري، محمد عالي، إدريس ولد القابلة، وإلى حد ما؛ أحمد بوخاري. http://gibraltarblues.blogspot.com