في غمرة التفاعلات السياسية التي أفرزتها انتخابات 04 شتنبر يتساءل المتسائلون، كل من موقعه وانتظاراته، :من الذي انتصر على الاخر حزب العدالة والتنمية أم حزب الأصالة والمعاصرة؟.المعارضة أم الأغلبية؟.ديمقراطية المداشر والأرياف أم ديمقراطية المدن؟ ديمقراطية الخواص أم ديمقراطية العوام؟ ديمقراطية النخبة أم ديمقراطية الشعب؟ ديمقراطية المصوتين أم ديمقراطية المقاطعين؟ ديمقراطية القوانين التنظيمية أم ديمقراطية الواقع؟ ديمقراطية الولاة والعمال أم ديمقراطية الصناديق؟ ديمقراطية الشعارات أم ديمقراطية البراغماتية ؟ ديمقراطية الأعيان أم ديمقراطية الأنتلجنسيا؟... تتناسل الأسئلة السريعة، تتوزع هنا وهناك، دون النفاذ الشاق إلى عمق القضايا الجوهرية التي ينبغي أن تطرح بعد كل لحظة مفصلية لاستخلاص الدروس الراهنة والمستقبلية التي تهم بلادنا.وهي الدروس التي تهم حاضرالمغرب، بما تعنيه من تحديات ورهانات كبرى، لا تتعلق فقط بمستلزمات التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فقط، بل أيضا باكراهات بناء المشروع الديمقراطي في ضوء المخاطر التي أضحت ترتسم في الأفق بفعل غلبة موازين القوى لفائدة التيارات المحافظة، سواء منها التيارات "الممانعة" التي تتبنى أطروحات سياسية تناهض المشروعية المؤسساتية والدينية للدولة ،أو بشقها " المشارك" الذي يربح مساحات وافرة في كل استحقاق ، باسم الشرعية الانتخابية المغلفة بما يسمونه ب"المرجعية الإسلامية"، وباسم التدافع السياسي الذي يعتبره الحزب الإسلامي الحاكم تكتيكا " ديمقراطيا" للزحف على المجتمع والدولة على حد سواء. وليس غريبا أن يصرح عبد الالاه بنكيران أمام منتخبي حزبه بعد نتائج الانتخابات الجماعية أن مرجعية الحزب المتمثّلة في "المرجعية الإسلامية" و"حفظ الأمانة والصدق"، هي التي كانت من بين أبرز الأسباب في المكانة التي يتواجد عليها الحزب انتخابيا، وأوصى منتخبيه" بالتمسك بالمرجعية الإسلامية" . واضح، من هذا التصريح - كما في تصريحات مماثلة- بأن حزب العدالة والتنمية ما زال يصر على لعب ورقة الحزب ذي المرجعية الإسلامية في محاولة منه لشرعنة تواجده السياسي لعزل باقي الخصوم السياسيين وتصويرهم للرأي العام كأحزاب كافرة، لا تخاف الله، ولا تصلح للسياسة.وبالتالي وجب اجتثاثها لأنها تشكل خطرا على الأمة.وهكذا، تسعى الإيديولوجية الاخوانية إلى تحويل مسار الصراع السياسي، بما يفترضه من قواعد ديمقراطية، في اتجاه ترسيخ ثنائيات خطيرة في المشهد السياسي تسعى إلى اختزال العملية السياسية برمتها في صراع بين قوى الشر وقوى الخير... الصراع بين مشروعين إننا اليوم إزاء مؤشرات موضوعية تسمح بالإقرار - أكثر من أي وقت مضى- بأن المشروع الديمقراطي مهدد ببلادنا ليس لأن حزب العدالة والتنمية يربح الانتخابات كما قد يربحها أي حزب سياسي، بل لأن مشروع العدالة والتنمية- يقوم على التحكم والاستقواء السياسي، في محاولة منه لتقويض العملية السياسية وتصوير الخصوم السياسيين وكأنهم شياطين يناهضون حكم الله،ومن خلال ذلك- وبالنتيجة- مناهضة الأساس الديني للدولة ومعاكسة توجهاتها في محاولة لإفراغ نظام الحكم من أحد أركانه شرعية إمارة المؤمنين. في هذا السياق ينبغي أن تفهم ردود الأفعال التي تصدر عن حزب العدالة والتنمية ضد خصومه السياسيين،ومن ضمنهم حزب الأصالة والمعاصرة.وهي ردود فعل تترجم في العمق الصراع ، الخفي والمعلن،بين مشروعين سياسيين، أضحت معالمهما تترسخ في المشهد السياسي. مشروع يسعى لأسلمة الدولة والمجتمع ويقوم على التدرج في عمليات الانسلال إلى مفاصل المؤسسات بتبني استراتيجية محكمة توهم الفرقاء السياسيين والنظام السياسي باحتكامه للعبة الديمقراطية، ووفائه للمؤسسات، وللثوابت، والاحتماء بها عند الحاجة. ومشروع نقيض يقوم على مجابهة هذه الاستراتيجية في محاولة لتقزيم النفوذ المتصاعد لهذا المشروع،وتضييق المساحات السياسية التي يسعى إلى احتلالها.وهما مشروعان ثقافيان مختلفان، لا نختزلهما - بالضرورة- في العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة بل في كل الدوائر التي تنتصر( بالعاطفة أو بالفعل) لمشروع من المشروعين المذكورين. ولعل هذا بالضبط ما تخبؤه السياسة في تفاصيلها العابرة، وهو ما لاينتبه إليه العديد من " الحداثيين" أو الحالمين بالدولة المدنية. تلك التي يسمونها الإسلاميون- بكل أطيافهم ومشاربهم- بالدولة العلمانية.إن الصراع اليوم، وان كان يبدو مرنا ،ولينا، وذا طبيعة مؤسساتية، فانه سيتحول مع غلبة الإسلاميين واستقوائهم داخل المؤسسات- ومن ضمنها المؤسستين التشريعية والتنفيذية- إلى صراع مفتوح سيجهز على حقوق كل الأطراف السياسية، بل سيقوم على مقايضة الدولة والمجتمع من أجل تثبيت أركان " دولة الحكم الإسلامي"،في مقابل الإجهاز على كل مقومات الدولة العصرية الحديثة. المشروعية الدينية للدولة في خطر. لنطرح السؤال بصيغة أخرى.... إذا كانت الدولة عاجزة ( أو تبدو كذلك)عن صياغة وترجمة مشروع الدولة الديمقراطية الحداثية بالنظر للاختلالات الفظيعة في موازين القوى لفائدة التيارات الأصولية والمحافظة، وعاجزة عن إطلاق مشروع ثقافي بديل لخدمة مشروع الدولة الحداثية على المستوى الاستراتيجي ، فكيف سيكون حال المغرب في السنوات القادمة؟. وإذا ما استمر النزيف في جسم الحركة الديمقراطية والحداثية،واستمر الحزب الديني في ربح مساحات إضافية في المشهد السياسي،كيف ستتصرف الدولة حينها مع الحزب الغالب؟. إن خطورة المشروع السياسي للحزب الديني تكمن أساسا في الصفة التي يحملها، أو على الأصح في الهوية التي يروج لها، ويمارس السياسة بها.هوية الحزب ذي المرجعية الإسلامية.الحزب الذي يتغذى سياسيا ( وانتخابيا) بالاشتغال الدعوي على شعارات تقسم المجتمع إلى دائرة المؤمنين، ودائرة الكفار، دائرة المتقين، ودائرة المفسدين...وفي السياسة أيضا، يتم اعتماد هذه المقابلات لصناعة رأي عام مناصر، ومساند، يمنح صوته " للحزب الديني" الذي "يغار على رسالة الإسلام والمسلمين".وهو الحزب الذي يصور نفسه مؤهلا للدفاع عن هذه الرسالة من داخل المؤسسات.لكن من بوابة الانتخابات. مما يسمى ب " الشرعية الانتخابية" و الدستورية.هكذا يشتغل العقل السياسي للحزب الديني. يوهم الناس بأنه هو الوصي على الأخلاق ، وعلى السياسات العامة،حتى فيما يتعلق باختيارات الدولة في المجال الديني.حينها، يصبح الحزب الديني مشروعا قائم الأركان لمزاحمة الدولة في شرعيتها، وفي اختياراتها....ولنا أن نتصور في المغرب، حزب سياسي يعاكس الدولة في شرعيتها أو ينصب نفسه رقيبا عليها. ثنائية " الشعب" و"التحكم". أضحى من الواضح أن حزب العدالة والتنمية يبني " مشروعية" عمله السياسي على خطاب المظلومية الذي يؤسسه على (ما أسماه الزميل الجماهري) ب " أسطورة التحكم. وهي التي تفيد بأن دولة عميقة داخل الدولة تطارده، وتسعى إلى شل مساعيه الإصلاحية، بل والى عرقلة العملية الديمقراطية.ولعل مفارقة هذا الخطاب هو أن العملية الانتخابية وان كانت لصالحه لزم الصمت، ولا يعترف بنزاهتها وبحياد السلطة، ويفضل ، عوض ذلك، إشهار" أسطورة الشعب" كنقيض لأسطورة التحكم. أسطورة الشعب هاته تعني، من منظور الحزب الديني،أنه هو الممثل الوحيد والشرعي للأمة، وأنه يحضى بتفويض غير مشروط من الشعب لتبرير اختياراته وتموقعاته.وبالتالي، فالأصوات التي يحصل عليها من التقية الانتخابية كافية لإسقاط شرعية الآخرين، ولو اقتضى الأمر أن يصرح رئيس الحكومة عبد الاله بنكيران في إحدى الجلسات البرلمانية بأنه لا يشتغل إلا مع من صوت عليه.وهو تصريح يترجم مفهوم الديمقراطية الشمولية التي تسعى لاغتيال التعدد السياسي من بوابة ما يسمونه بمناهضة التحكم والاستبداد. وبالتالي يتم توظيف أسطورة التحكم لخدمة غايات سياسية، على المدى القريب والمتوسط، ومنها - على وجه الخصوص -محاولة ترهيب وتركيع الدولة والمجتمع ، من مواقع مختلفة،بالتلويح المستمر بإمكانية قلب الطاولة وتأزيم النظام. -إفراغ العملية الديمقراطية من محتواها التحديثي، وتحويل صناديق الاقتراع إلى أداة لتبرير الهيمنة الإيديولوجية لمناهضة مشروع الدولة المصرح به( المشروع الحداثي الديمقراطي). -تقويض العملية السياسية بالطعن المستمر في المشاريع الحزبية المناهضة للمشروع السياسي للحزب الديني. إننا هنا بصدد التذكير( إعادة التذكير) بالذهنية الأصولية التي تسعى إلى قتل الزعيم السياسي المعاكس( بغض النظر عن بروفايله وكفاءاته) باعتماد كل التكتيكات الممكنة( الإشاعة - التهكم- التحريض- شخصنة الصراع-التهديد- تمييع الخطاب...).لأن سقوط أي زعيم محتمل هو توسيع لدوائر النفوذ الأصولي على اعتبار أن إيديولوجية الحزب الحاكم تسعى إلى حصر الصراع السياسي بين قوتين..قوة الخير المطلق الذي يمثله الحزب الديني المتستر وراء ما يسمونه ب" المرجعية الإسلامية" والتي لا يمكن أن تعترف ب الهزيمة الانتخابية. (لأن التصريح باعتماد المرجعية الدينية يتناقض أصلا مع مفهوم التباري الانتخابي، ومع قواعد اللعبة الديمقراطية التي تفترض الهزيمة والانتصار).ثم ، قوى الشرالمطلق التي تمثلها "قوى التحكم" والتي تأخذ في كل سياق توصيفات ومسميات جديدة. وهكذا ، إذا سقط " رمز" من رموز الشر، فهو انتصار سياسي للحزب الديني ، وبشارة خير للانتصارات القادمة.غير، أن الخطاب السياسي للحزب الديني يفضل عادة ألا يسمي "قوى الشر"بأسمائها الحقيقية لأن الرأسمال الرمزي في المعركة يقتضي تجييش الأنصار والأتباع ضد خصوم ينفلتون عن الضبط،أو حتى عن المتابعات القضائية لأنهم كائنات شبح توجد في أمكنة لامرئية. وحطب المعركة ووقودها هو التعبئة الإيمانية إلى حين طردها المرتقب... انتصار الخدعة إن الخطاب السياسي للحزب الديني بترويجه الرابح لثنائية "الشعب- التحكم "استطاع أن يحتل مواقع ومساحات متقدمة في العمليات الانتخابية،وفي المشهد السياسي، بل وأن يستقطب فئات مهمة من المتعلمين،ومن الفئات الوسطى، ومن الرأي العام.وإذا كانت الخدعة - على ما يبدو- قد انطلت على شرائح واسعة من الناخبين بتوهيمهم بأن جهات عديدة تقاوم الإصلاح الذي يدعو إليه الحزب الديني،وأنه حزب مضطهد من قبل الدولة العميقة ( هذا ما صرح به رئيس الحكومة في أحد المحافل الدولية خارج الوطن) وبالتالي وجب مساندته ضد " قوى التحكم والفساد"، فان المعادلة اليوم تبدو مثيرة (وهي المعادلة التي أوردها الزميل عبد الحميد جماهري ) " لو لم يكن حزب البام لكان بنكيران قد صنعه لكي يعود إلى هذه الثنائية، لأنها بكل بساطة مربحة له..". الأمر يعني بأن المظلومية التي ينتعش بها الحزب الديني أصبحت ورقة رابحة، تفعل فعلها في صفوف الناخبين والناخبات.وهكذا، أصبح " من يقيم في قلب الدولة والمؤسسات( وهو الذي يحكم) يشتكي من التحكم ويدعو إلى مقاومته ; ويربح الأصوات ، ومن يناضل في الشارع،ومع الشارع، ويدعو إلى محاربة الفساد والاستبداد يخسر الأصوات. هي المعادلة المقلوبة التي سجلتها سياقات ما قبل وما بعد 20 فبراير حيث خرج الحزب الديني من الشارع، ليدخل إلى دواليب الحكومة. واليوم يدخل إلى دواليب الحكومة ليتحكم في الشارع.