يتمُّ خلال الساعات الراهنة تركيبُ مخرج سياسي يؤمّن تصويتاً لصالح التمديد لولاية مجلس النواب اللبناني. وما بين المعلن والمُضمر تسيرُ ورشةُ التمديد ما بين الموافقين والمتدللين، ما بين وفاق ونفاق، ما بين الواقعية وصيّد الاحلام. يكفي رصدُ المواقفِ وتأمل الجدل لاكتشاف هشاشة الأداء السياسي اللبناني وعبثية سلوكه. يناقشُ الساسة اللبنانيون مصيرَ برلمانهم، أي المؤسسة التشريعية المراقبة لأداء الدولة. التطورات الأمنية الأخيرة تكشف وهن تلك الدولة وعرضية دورها. يصادر ذلك الدور حيوية قوى الميّدان سواء بالطبعة "الارهابية" التي نشطت في طرابلس والشمال، وبالطبعة "الشرعية" التي يمثّلها حزب الله. هذا الأخير تنتشر قواته في كل مكان في البلد، سواء بالمناسبة العاشورائية، أو بإطلالته على الحدث الشمالي، أو في أمعانه في التورط في الوحل السوري. على أن اللبنانيين باتوا يدركون أن وجودَ البرلمان أضحى شكلياً طالما هو عاجز عن تقديم مضمون تشريعي. البرلمان يفقد وظيفته، صارت كواليسُه منبرَ ردح إعلامي، فيما يندرُ أن ينعقد بدون صفقات سياسية وتسويات خلف الكواليس. البرلمان عاجز عن انتاج رئيس للجمهورية، فيما الخبراء الدستوريون يشككون أصلاً بشرعية انعقاده لهدف غير ذلك. وعلى الرغم من أن بدايات عهد حكومة تمام سلام أوحت بتوافقٍ ظرفيّ بين حزب الله وتيار المستقبل، وعلى الرغم من "زوبعة" التنسيق التي سُجّلت بين وزير الداخلية المستقبلي نهاد المشنوق ووفيق صفا مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في الحزب (لا سيما بشأن قرية الطفيل)، فإن الأيامَ الراهنة تعيدُ كشف التناقض الحاد بين الفريقين، على الاقل فيما أعلنه المشنوق نفسه، أو في التناتش الاعلامي المتبادل حول الارهاب وأداء أجهزة الأمن والموقف من الشأنين السوري والإيراني، أو في الحملة التي يطلقها إعلام الممانعة ضد الوزير المستقبلي أشرف ريفي (وزعم تورط مرافقه بأنشطة إرهابية)، مقابل حملة تكريم يقيمها نفسُ الإعلام للقيادي العونيّ فايز كرم، الذي سبق إتهامه بالعمالة لإسرائيل، إنتهاءً بالأنقسام الحاد في الموقف من مسألة المساعدات العسكرية الإيرانية للجيش اللبناني. يكادُ البلد يعيش حرباً أهلية صامتة. الفتنة السنية الشيعية جاهزة للانفجار في أي لحظة وفق الفوضى الميّدانية الراهنة. يطالبُ وزير العدل أشرف ريفي بالدخول الى جبل محسن والضاحية إسوة بما يحصل في التبانة، فيما وزير الداخلية نهاد المشنوق لا يعطي "براءة ذمة مطلقة لبعض الأجهزة الأمنية". في ذلك محاولة لاستيعاب جمهور السُنّة الذي لا يرى عدلاً في المقاربات الأمنية التي تستبيحُ مناطقهم دون تلك التي يهيمن عليها حزب الله وحلفائه. بالمقابل يتحدثُ إعلام حزب الله عن الشيخين بلال دقماق وداعي الاسلام الشهال بصفتهما كشخصيتين مشبوهتين في تعاملهما مع الارهاب، كما تتحدثُ عن تواجدهما في بلدين تتهمهما بدعم الارهاب: السعودية وتركيا. ضمن ذلك العبث الساخن يتحرى رئيس مجلس النواب نبيه بري تأمين "ميثاقية" للتمديد لمجلس النواب. وتكادُ العبارة تأتي سوريالية في بلد يتعايش مواطنوه وفق ارتجال قدريّ لا شأن له بالقواعد الدنيا للميثاقية وعدّتها. المهم في لبنان الحفاظ على الشكل ب "انتظار غودو". المهم أن يدّعي الفرقاء السياسيين الموافقة على مفصل دستوريّ حتى تخرج الميثاقية مبتسمةً، ويقتنع اللبنانيون بعبقرية تعايشهم. المطلوب ميثاقياً أن يبارك المسيحيون خيار التمديد بالتصويت داخل نفس المجلس النيابي الذي يعجزُ عن انتخاب الرئيس المسيحي الوحيد في هذا الشرق. والمطلوب في النهاية أن يسأمَ اللبنانيون من جدل حول أمرٍ محسوم يجري تسويقه "ميثاقياً" بصفته بلسم جراحات البلد. والمفارقةُ في ميثاقية الحدث، أن الساسة السنّة والشيعة، على تناقضهم وتناحرهم، موافقون على التمديد للمجلس، وفق غياب مقلق لنقاش ديمقراطي داخلي، يعكسُ جمود الحيوية السياسية لدى البيئتين لصالح الزعامة الوحيدة الواحدة، فيما الجدلُ نشطٌ، إلى حدِّ المبالغة التي تكاد تكون مصطنعة، لدى الطبقة السياسية المسيحية، بما يعكسُ ذلك التعدد، الكيّدي ربما، لاحتلال الحيّز الأوسع داخل الأوساط المسيحية. الجدلُ مناسبة للمزايدة بين الفرقاء المسيحيين حول الغيرة على المؤسسات وإحترام الإستحقاقات والحرص على انتخاب رئيس للجمهورية. في ذلك يتحفظُ حزب القوات اللبنانية، ويتريّث حزب الكتائب، ويتدلل ميشال عون إمعاناً في إحراج الخصوم. لكن في توسّل الرئيس نبيه بري للميثاقية عنواناً للتمديد لمجلس النواب، يطلُ البطريرك الماروني بشارة الراعي، في تصريحات واضحة لافتة (لا تحمل أوجهاً على منوال أغلبية تصريحاته) يحذّرُ فيها السلطة السياسية في لبنان، وتحديدا المجلس النيابي، من "الإمعان في مخالفة الدستور وانتهاك الميثاق الوطني والصيغة اللبنانية، سواء أكان عن طريق ما يسمى مؤتمر تأسيسي أو بدعة نظام المثالثة". ويُعتبر تصريحات الراعي أول موقف حاسم تطلقه الكنيسة المارونية ضد المؤتمر التأسيسي الذي كان دعا إليه السيّد حسن نصرالله، والذي يُشتم منه دفعٌ بإتجاه المثالثة (السنية - الشيعية - المسيحية) بديلاً للصيغة اللبنانية التي تستند على الثنائية الاسلامية المسيحية في تقاسم السلطة. رفض السُنّة تلك الدعوة ممثلين بتيار المستقبل، لكن أمر ذلك ينال عملياً، وبشكل مباشر، بمكانة المسيحيين السياسية المعتمدة على المناصفة أيا كان حجمهم الديمغرافي وفق مقولة الرئيس الراحل رفيق الحريري الشهيرة: "أوقفنا العدّ". في الأعياد الميثاقية الراهنة يتساءلُ اللبنانيون عن مدى ميثاقيّة استخدام السلاح في الداخل لحسم النزاعات السياسية، وعن مدى ميثاقيّة امتلاك فريق في البلد لقرار الحرب والسلم، وعن مدى ميثاقيّة اقفال البرلمان نفسه أمام التشريع كأداة من أدوات تصفية الحسابات، وعن مدى ميثاقيّة مشاركة فريق في الحكومة اللبنانية في القتال إلى جانب نظام دمشق، وعن مدى ميثاقيّة التعامل الامني مع المناطق والبيئات اللبنانية وفق انتقائية وازدواجية لا تتسقُ مع أبجديات تعريف الدولة في أي بلد في العالم. يعرف اللبنانيون هذا الجدل، ويستسلمون لأمر واقع لا يمتُ للميثاقية بصلة. تحت العنوان النبيل لتحري الميثاقية المقدّسة سيدلي الميثاقيون بدلوهم مُعبّرين عن "حرص على مصلحة البلد واستقراره". بين متحفظ ومتردد ومتدلل ومزايد سيمرُ التمديد كما مرت مفاصل "شكلية" أخرى. سيحقنُ البرلمانيون برلمانهم بسبل البقاء. أوليس البقاء أحياناً شكل من أشكال الموت، وليس الحياة؟ محمد قواص صحافي وكاتب سياسي