خطرت لي فكرة الكتابة عن الفلاح المغربي الصغير وأنا أتأمل لوحة «المزارع» لفانسان فان غوخ. البؤس واضح من الألوان وهلامية الأشكال. يبدو أن بؤس المزارعين الصغار لم يتراجع مع الزمن. في المغرب تقل مساحة 71 في المئة من الاستغلاليات الفلاحية عن خمسة هكتارات. بينما لا تزيد مساحة 25 في المئة منها عن عشرين هكتاراً. وهكذا فإن 96 في المئة من أملاك الفلاحين المغاربة مزارع صغيرة. وهي تعاني مشاكل كثيرة. في تشرين الاول/أكتوبر، يكلف حرث هكتار لثلاث مرات 600 درهم. ويكلف زرع 180 كلغ حبوباً 600 درهم، ومعها قنطارا أسمدة ثمنها 700 درهم. في شباط/فبراير لا بد من قنطار سماد - ملح ثمنه 350 درهماً. في آذار/مارس 150 درهماً لمحاربة الطفيليات. وعندما تخرج السنابل لا بد من رش دواء آخر كلفته 400 درهم لحماية السنابل فلا تصير فارغة. يكلف الحصاد 350 درهماً للهكتار. المجموع يعادل 390 دولاراً. في مواسم الحصاد الجيدة يحصل الفلاح على 20 قنطاراً، وفي المواسم الفلاحية المتوسطة يحصل على عشرة قناطير (ثمن القنطار 30 دولاراً). الفلاح يمضي إذاً نحو الإفلاس بشكل مضمون... جل الفلاحين يزرعون المحصول نفسه، وحين يجهز ينهار ثمنه. للنهوض من جديد، لا يحصل الفلاح الصغير على تمويل، وهو يدرك بحسه الشعبي أن أزمة الرأسمالية مثل مرض السكري لا يعالج لكن يجب التكيّف معه... لذا يحرص على حرث أرضه كل سنة... التقلبات المناخية يرتبط الإنتاج بالتقلبات المناخية. ففي السنوات المطيرة تكون الحقول مزدهرة. وبسبب كثرتها ترتفع كلفة الحصاد والدرس. وحين يكثر المحصول ينخفض ثمنه. فالفلاح هنا تحت رحمة العرض. أما عندما تكون السنة جافة، أو مطيرة بشكل غير منتظم. فإن الفلاح لا يسترجع حتى كلفة الحرث والزرع. وغالباً ما يترك ماشيته ترعى ما تبقى من الحقل. والملاحظ في السنوات الأخيرة أن فوضى المطر قد تزايدت. ففي أسبوع تهطل مئتا مليمتر فيجرف الماء وجه الأرض الخصب. وبعدها يمر شهران أو ثلاثة ولا تجود السماء بقطرة واحدة. تضرّ تقلبات الطقس بالمحصول. يفسر الفلاحون تقلب الطبيعة بالغضب الرباني. وينظرون للجفاف أو للفيضان كعقاب إلهي بعد تزايد انتشار المنكر و«المسخ». لاحظ: تزايد وليس نشأة المنكر. فهو قديم لكن كان قليلاً ومستتراً. أما الآن فهو كثيف وعلني. لذالك طالب إمام مسجد، في قرية، الناس بالكفّ عن قبول «الحرام» لتجود السماء ماء. تحتضن هذه الاستغلاليات الصغيرة زراعة معاشية، لذا فالفلاح نادراً ما يتوفر على فائض لتوجيهه للسوق. ولتعويض نقص المحصول، يتم الاعتماد على تربية الماشية. يتم جلب الكلأ من الاستغلاليات الكبيرة المجاورة. أو رعي الماشية في جانب الطريق مجاناً. يعمل الفلاحون الصغار في هذه الاستغلاليات طيلة النهار من دون تحديد لساعات العمل. لا يكمن المشكل هنا فقط، بل إن المردود هزيل مقارنة مع ساعات العمل. وبسبب ضعف القدرة الشرائية، يشعر الفلاحون الصغار بأنهم يعملون مجاناً. غالباً ما يرفض الرجال هذا. لتعويض الخسارة وتقليل الكلفة، يجري الاعتماد على تشغيل أفراد الأسرة وخاصة النساء. فهن أكثر قبولاً للسيطرة بسبب هشاشة وضعهن. يخفن الطلاق، لذا يحدث أن تعمل المرأة بينما الزوج تحت شجرة يدخّن ويشرب الشاي، وهي تحلب البقرة، وتمخض لبيع الزبدة... الفلاح الذي تزوج امرأة شاطرة يعيش بخير. ومع ذلك يقول لها بوقاحة فادحة «لقد ضحّيت وتزوجتك». حين ترفض النساء هذا ويهربن إلى المدن يجري اتهامهن «بالخروج عن الطريق»، وهذا عار لرجال الأسرة. لا يستفيد الفلاح الصغير من دعم برنامج الدولة المسمّى «مخطط المغرب الأخضر» الذي يشترط ملكية أرض «مُحفّظة» اي مسجلة. «المخطط الأخضر» للكبار. تعرف الدولة هذا، لذلك تقدم الحكومة المغربية للنساء أغناماً حتى دون ملكية الأرض. ترى جدتي هذا اليوم وتشعر بالغضب لأن في أيامها لم يساعدها أحد. لقد قضت جدتي خمسين سنة بين 1946 و1996 من عمرها فلاحة ورأت قهراً رهيباً. وكنت أرعى بقرتها في العطل الصيفية ومعي كتاب الجغرافيا. وقد كنتُ في سنوات الإعدادي والثانوي أشتري مقرر العام الدراسي التالي فور نجاحي في العام الدراسي المنتهي. وكنت أقضي العطلة الصيفية في البادية أدرس مقرر الجغرافيا في ظل الشجر بينما أرعى بقر جدي من أبي وجدتي من أمي في شمس حارقة. وكنت أختبر نفسي بذكر دول العالم ذات الحدود المتصلة من تونس حتى جنوب أفريقيا. من فرنسا حتى روسيا. من إيطاليا حتى السويد. والآن حين أتأمل مساري باعتباري ابن فلاح صار موظفاً لديه بطاقة بنكية وسكن المدينة ويركب الطائرة، أعتبر أني قد حققت قفزة اجتماعية هائلة. لقد نجوت مما كاد يعقد حياتي: حلب البقر. نمط فلاحي يفيض الحليب من ضرع البقرة وقد يصيب ملابس الحلاّب التي تصير حامضة بعد ساعات خاصة في فصل الصيف. لقد كرهت حياة الفلاحُ في الصيفِ والشتاء. النقود قليلة والعمل كثير. لكن أعترف أني احتفظت بنمط تفكير فلاحي خاصة في مجالي التغذية والعمل. أكره تناول المحفوظات او الكونسروة وأستيقظ مبكراً كل يوم وأعمل ساعات طويلة بغض النظر عن العائد من الكتابة. الخطأ الوحيد الذي أرتكبه هو أني بصدد بيع الأرض التي ورثتها لشراء تجهيزات تصوير أفلام. للإرث دور كبير في صناعة المزارع الصغيرة. فبسببه تتفتت الملكية. وينتج عن كل تقسيم للأرض إنشاء مبانٍ جديدة للسكن. وهذا يقلص المساحات المزروعة كلما تزايد أفراد الأسرة. وهكذا فإن كثرة الأولاد التي كان هدفها الأصلي «الوجاهة الاجتماعية» قد صارت آلية للإفقار الدوري. وكلما تفتتت المزارع تفككت العلاقات الأسرية بسبب قضايا الإرث في المحاكم، وبسبب بيع الإناث المتزوّجات في مناطق أخرى لنصيبهن من الأرض. بينما يعتبر الرجال أن الموت أهون من بيع الأرض. الأرض والسياسة يمتد المغرب ثلاثة آلاف كيلومتر طولاً من جبل طارق حتى مدار السرطان في الصحراء الكبرى. وكلما اتجهنا جنوباً تزايدت مشاكل الفلاحين، إذ تقلّ الأمطار وخصوبة الأرض وكثافة الغطاء النباتي. تتحكم الموارد الطبيعية كخصوبة الأرض وتوفر المياه وقرب الطرق والمدن في توزيع السكان القرويين. لذا يجري تحوّل ديموغرافي كبير في الأرياف. تفرغ المناطق الجبلية من سكانها بينما تزداد كثافة السكان في السهول الساحلية التي تستقبل استثمارات فلاحية مثل منطقة «سوس» جنوب آغادير، حيث مئات آلاف الهكتارات الخصبة، تحتضن زراعات سقوية بفضل سدود عدة مثل سد عبد المومن وسد يوسف بن تاشفين. منطقة تسمح بزيادة إنتاج البواكر. ويوجد في هذه المنطقة مستثمرون محليون (أعيان) وأجانب. وأخيراً، وبصدد علاقة الأرض والسياسة، فمن لا يملك ارضاً فلا نفوذ له. وأصحاب الضيعات الكبيرة هم أسياد أصحاب الضيعات الصغيرة. يسهل إخضاع الفلاح الفقير حين يصير عاملاً بشكل مؤقت أو كامل. يصوّت الفلاح الصغير للفلاح الكبير صاحب الخطاب الأبوي. لكن دخول المستثمرين الأجانب تؤثر بشكل حاسم على العلاقات السائدة والإنتاج. فهم يجلبون تقنية متطورة، يعتمدون على المكننة وينشئون علاقات إنتاج جديدة. يشغلون يداً عاملة نسائية كثيفة وغالباً ما يحترمون قانون الشغل بخلاف الأعيان. يجري العمل تحت الأغطية البلاستيكية في حرارة زائدة، ومع زيادة الإنتاج يجري تقييم المنتوج. وقد أنشئت حول أغادير مصانع لتعبئة الخضروات والعصير وتعليب الحليب ومشتقاته. هكذا يتغيّر نمط الإنتاج. يقوض نمط تعامل المستثمر الأجنبي صورة الأعيان. تحل علاقات تعاقدية محل العلاقات الأبوية. كما تؤدي لتطوير طريقة الإنتاج وبالتالي زيادة التصدير. وغالباً ما تستغل الأرباح لشراء قطع أرضية وتجميعها لخلق مزارع كبيرة تدخل ضمن دورة الاقتصاد الرأسمالي. ومع الزمن يتعرض عدد الفلاحين الصغار للتقلص ويرحلون للمدن لترييفها. لذا لا تستقبل المدن المزارع بترحاب. محمد بنعزيز