بقلم : مروان ياسين الدليمي / خصوصية التجربة : لم يكن متوقعاً ابداً لدى المراقبين ان يحسم امر التغيير السياسي في بلد مهم وكبير مثل مصر بين ليلة وضحاها . فالامر فيها ليس من السهولة بمكان ان يتم ازاحة زعيم له على الاقل تاريخ عسكري مُشرّف ويمسك مع حزبه الحاكم بالمسار السياسي للبلاد لأكثر من ثلاثين .عاماً مضت والمجيء بشخص اخر بدلاً عنه أولاً : لان مبارك قد حصّن نظام حكمه من السقوط السريع بأعتماده على بناء مؤسسة عسكرية قوية ، ضمن منها الولاء له ، حتى ان التغييرات الحكومية التي كان قد اجراها مضطراً بعد 25/ يناير 2011 تحت الضغط الشعبي جاءت لتؤكد اعتماده بشكل اكبر على قادة الجيش ، فرئيس الوزراء البديل ( احمد شفيق ) ضابط سابق في سلاح الطيران ، وعمر سليمان نائب الرئيس هو الاخر رجل عسكري . ثانياً : إن طبيعة الحياة السياسية التي تعيش بظلها مصر منذ مطلع القرن الماضي تتسم الى حدٍ ما بمرونة واضحة تتيح الكثير من ألممارسات ذات الطابع الديموقراطي لم تتوفر في معظم البلدان العربية الاخرى .فلقد عرفت مصر منذ العهد الملكي المجالس النيابية والانتخابات البرلمانية التي كانت تجري في عموم البلاد لانتخاب الاعضاء فيها ، كما أمست التعددية الحزبية واحدة من سمات الحياة السياسية ، رغم ماكان يشوبها بين فترة واخرى من تضييق وتجميد لها كانت تفرضه السلطة بشخص رئيسها وحزبه الحاكم سواء في عهد عبدالناصر او خلفه السادات او في عهد مبارك .ورغم ذلك لم يتوقف عمل الاحزاب المعارضة في الشارع المصري، وغالباً ماكانت تجد نفسها في صراع واضح ودستوري مع الحزب الحاكم مع كل لعبة انتخابية كانت تجري سواء لانتخاب اعضاء مجلس الشعب اوفي انتخابات المنظمات والنقابات المهنية ، ورغم عمليات التزوير التي كانت تمارسها السلطة بكل الطرق المكشوفة منها وغير المكشوفة والتي غالباً ماكانت تتيح لها الفوز باكبر عدد من المقاعد الاّ ان ذلك لم يكن يمنع من وصول الاحزاب المعارضة الى نيل نسب من الاصوات تتيح لهاان تمتلك مقاعد بنسب تتفاوت بين انتخاب واخر، توفر لها فرصة ولو صغيرة لايصال صوتها المعارض . قوانين الطوارىء كل ذلك كان يأتي وفقاً لأليات دستورية تجعل من العمل السياسي في مصر يتحرك وفق التشريعات والانظمة التي يكفلها القانون المثبّت في دستور البلاد وإن كان الدستور قد تعرض في الكثير من الفترات الى عمليات تجاوز وخرق وفقاً لقانون الطوارىء الذي كان يكبّل الحياة السياسية بقيد ثقيل منذ عدة عقود . وقد اتاح هذا القانون للسلطة ان تكمم الافواه وتعتقل الاصوات التي تتقاطع مع سياسات النظام القائم ابتدأ من منع التظاهرات الى الرقابة على المطبوعات مروراً بحرية تشكيل الاحزاب والحركات السياسية. بداية الانحراف ان تعقيدات العلاقة القائمة بين الاحزاب السياسية المصرية ونظام الحكم السياسي القائم في مصر اخذت هذا المنحى المنحرف باتجاه القمع من قبل السلطة لها ابتدأً من العام 1954 اي في العام الذي نحىّ فيه عبد الناصر اللواء محمد نجيب عن زعامة قيادة ثورة يوليو في 14 نوفمبر من ذلك العام وتسلمه هو زمام قيادتها بعد ان اختلف الاثنان فيما بينهما خلال العامين الاولين اللذان اعقبا ألانقلاب العسكري عام 1952 حول مسائل جوهرية تتعلق بطبيعة وشكل النظام وطبيعة العلاقة التي ينبغي ان تكون عليها العلاقة مع الاحزاب المصرية ، وتقاطعت وجهتا نظريهما ولم تلتقيا الاّ بالافتراق والقطيعة ، وقد بدا واضحا بعد ذلك لمن تصفح مسار القادة الجدد ان الصراع بين اللواء محمد نجيب والبكباشي جمال عبد العناصر سينتهي بهما الى مفترق طرق ، وبدا الاثنان لايلتقيان عند نقطة التقاء واحدة في رؤيتهما لمستقبل الحياة السياسية في مصر، فاللواء نجيب كان يأمل في بناء تجربة تحترم التعددية الحزبية وتفتح هامشاً واضحاً للديموقراطية تتيح للاحزاب ان تشارك في العملية السياسية وفقاً لشراكة وطنية يكفلها الدستور وكان أول خلاف بينه وبين ضباط القيادة يتعلق بمحكمة الثورة التي تشكلت لمحاكمة رموز العهد الملكي، ثم حدث خلاف اخر بعد صدور نشرة تأمر باعتقال بعض الزعماء السياسيين وكان من بينهم رئيس الوزراء في العهد الملكي مصطفى النحاس، فرفض هواعتقال النحاس لكنه فوجئ بعد توقيع الكشف بإضافة اسم النحاس، كما أصدرت محكمة الثورة على أربعة من الصحفيين حكماً بالمؤبد عليهم وصادرت صحفهم بتهمة إفساد الحياة السياسية.، يضاف إلي هذا قرارات أخرى صدرت رغم أنه كان قد رفض التوقيع عليها منها : قرار جمهوري بسحب الجنسية المصرية من ستة مواطنين مصريين ينتمون الى جماعة الاخوان المسلمين ، واكتشف ايضاً أنهم يصدرون اوامر بنقل الضباط دون الرجوع الى مشورته، كما رفض زكريا محي الدين وجمال سالم وكانا من مجموعة الضباط الاحرار أن يؤديا اليمين الدستورية أمامه بعد تعيينهما بمناصب حكومية .بينما وقف عبد الناصر على الضد منه ليمنح مجلس قيادة الثورة كافة الصلاحيات لقيادة البلاد دون الرجوع الى الاليات الديموقراطية التي تتيح للاحزاب ان يكون لها رأي وموقف من تلك القرارات التي انفرد بها مجلس قيادة الثورة الذي اصبح هوالمشرع للقوانين التي تنسجم اولاً واخراً مع الاهداف التي يرسمها المجلس . هذا الخلاف بين الاثنين لم يحسم الاّ بأستبعاد اللواء محمد نجيب الذي اصبح لوحده يغرد خارج سرب الضباط الاحرار الذين كانوا مجموعة من الشباب يملأهم الحماس الوطني بقيادة البلاد دون ان يكون لهم خبرة ورؤية سياسية تستثمر الكثير من عناصر البناء السياسي الديموقراطي الذي كانت تتسم به الحياة السياسية النيابية ايام الملكية . بل على العكس من ذلك اطاحوا بذاك التراث الذي كان قد بني طيلة اكثر من اربعة عقود من عمر الحياة السياسية التي كانت تشكلها مجموعة من الاحزاب والشخصيات السياسية شهدت على طبيعة نضالها قبة البرلمان . التجربة الدكتاتورية وماأن تسلم عبد الناصر قيادة مجلس الثورة حتى بدأ في مصر زمن اخر طويت فيه صفحة برلمانية مشرقة بالقياس الى ماجاء بعدها،وانطفأت في سماءه اسماء واحزاب وطنية ، وليبقى اسم واحد وقائد واحد وحزب واحد يتحرك وسط المشهد ، وليتحمل القائد لوحده مسؤولية قيادة البلاد في كل صغيرة وكبيرة وليكون مسؤولاً عن كل القررات المصيرية التي ستقرر الطريق والوجهة التي ستمضي اليها . وهنا ابتدأت لحظة مصيرية من تاريخ شعوب المنطقة العربية يمكننا الان القول عنها بأنها اللبنة الاولى في تأسيس منظومة النظام السياسي الدكتاتوري الذي ستشهده البلدان العربية بعد ذلك واحدة اثر اخرى ، ولم تكن في حقيقتها الاّ استنساخ للتجربة المصرية بامتياز بعد ان توفرت في شخصية عبد الناصر عوامل ذاتية بدا من خلالها نموذجاً للقائد الذي يحلم به الفرد العربي للخروج من هيمنة الاستعمار والشعور المفقود بالعزة والكرامة الوطنية التي كانت قد سلختها منه القوى المسيطرة على وسائل الانتاج من ملاك الاراض والقوى الاقطاعية . جاء ذلك بعد ان اتخذ عبد الناصر سلسلة من القررات الثورية بموجبها استولت الدولة على اراضٍ شاسعة كان يملكها الاقطاع والملاكون ثم وزعها على الفلاحين . وبهذا انهى عبد الناصر حقبة مهلكة من تاريخ الفلاح المصري تمتد لمئات السنين كان يعيش فيها في نمط قاس من العلاقة العبودية لم توفر له احساساً بذاته وكرامته الانسانية رغم ماكان يبذله من جهد لم يوفرله شيئاً في الارض التي يعمل فيها طيلة العام . بل كان يزداد فقراً ومهانة مقابل ماكان يجنيه اسياده من محصول وفير نتيجة عرقه . كما واجه عبد الناصر الدول الكبرى(اميركا وبريطانيا ) عندما اتخذ قراراً مصيرياً بتأميم قناة السويس عام 1956 . وهذا ما وضعه في مواجهة مباشرة مع قوى كبرى كانت تقتسم العالم بجيوشها ومصالحها . فاضاف له ذلك بريقاً وجاذبية ساطعة بأضوائها ، كانت تكفي لتحجب عن عيون الناس داخل وخارج مصر كل الاخطاء التي كان يرتكبها مع القوى والاحزاب السياسية الوطنية داخل مصر والتي كان نتيجتها ان يبقى تنظيم الاتحاد الاشتراكي الذي كان يتزعمه عبدالناصر يتحرك بحرية تامة في المشهد السياسي المصري بينما تعاني القوى التقدمية من سوء نظرة السلطة اليها وتعاملها معها، فكانت السجون والمعتقلات تستقبل بين فترة واخرى عناصر وقيادات تلك التنظيمات وفي المقدمة منهم الحزب الشيوعي اضافة الى حركة الاخوان المسلمين التي انتهت علاقتها مع عبد العناصر منذ العام 1954 عندما حاولوا اغتياله داخل قبة البرلمان وبقيت محظورة من العمل والتواجد العلني في الحياة السياسية حتى يوم 25 يناير 2011 . البطل الشعبي وتشكلت على نمط شخصية عبدالناصر زعامات عربية في بلدان اخرى بعد ان وجدت هذه الشخصية مكاناً لها في وجدان بسطاء الناس من الشعوب العربية التي كان ينقصها التعليم بنسبة 70% من مجموع تعدادها ، فكانت الاميّة ميداناً رحباً وارضاً خصبة لكي تتجذر وتمتد فيها شخصية الدكتاتور ولكن بصورة البطل الشعبي الذي كانوا يسمعون عنه في الروايات والقصص الشعبية الخرافية . وليصبح الدكتاتور بطلاً قومياً يعبر عن تطلعات امة كسرتها وهزمتها جيوش المحتلين من تتار وصفويين ومماليك واتراك وبريطانين وفرنسيين . امة غابت عنها مكانتها التي كانت عليها بعد الفتح الاسلامي شرقاً وغرباً لتمتد في أراض ٍوممالك وقارات بعيدة . وامست تغرق في ذل وجهل وفقر وعبودية قروناً عديدة وجاء اليوم الذي يقف فيه شاب وسيم بوجه العالم المتغطرس ليوقظ في وجدان الناس البسطاء مشاعر جديدة الهبت حماسهم في وحدة الانتماء الى امة عربية واحدة ، ورسم لفقراء الناس عالماً تسوده العدالة الاجتماعية ، وأزال القاباً من الحياة الاجتماعية كانت تكرس الطبقية في العديد من صورها . وازاء هذا لم يكن امام الشعوب العربية الاّ ان تتبع عبد الناصر في كل مايفكر فيه دون ان تشعر بالخوف مما قد يترتب على تلك الخطوات التي يأتي بها ، ذلك لانها وثقت به بعد أن وقف الى جانبها ضد الاغنياء والبشوات وملاك الاراضي وكل القوى الاجنبية الطامعة بالبلاد . نقاط القوة والضعف لاشك في صدق النوايا الوطنية لعبد الناصر سواء في وقوفه الى جانب الفقراء والفلاحين او في صدق انتمائه لوطنه والدفاع عنه ضد كل القوى الاجنبية التي كانت تسعى لنهب ثرواته . هذا امر لااحداً يشكك فيه ، لكن مايعاب عليه ويسجل ضده من نقاط جوهرية هي في طبيعة وشكل النظام السياسي الجمهوري الذي بناه وكرسه في مصر على انقاظ نظام سياسي ملكي دستوري مَرِن ٍ كانت تعيشه مصر قبل العام 1952 . فالنظام الجديد الذي جاء به وكرسه كان نظاماً سياسياً أقل مايقال عنه انه عطّل الحرية وغيبها بكل اشكالها ، لينزوي في الظلمة مثقفين ومفكرين واحزاب سياسية، ولينعدم دورهم ومشاركتهم الايجابية في صياغة الحياة . مما يعني انعدام الفرصة امام المواطن العربي ليحيا لحظة مشبعة بالحرية الانسانية تمكنه ان يفكر بصوت عال بعيداً عن هيمنة السلطة وخطوطها الحمر التي كانت تتسع وتكثر يوماً بعد اخر لتضيّق الخناق على المواطن وتكسر فيه الحلم والارادة. حضور الغد بصورة الماضي تكرر نموذج النظام الذي بناه عبد الناصر في بلدان عربية اخرى بنفس المواصفات والمقاييس مع اضافات ولمسات محلية وشخصية اكثر قسوة وعنفاً تبعاً للمنظومة الثقافية التي تتحكم بكل مجتمع عربي مر عليه ذلك النموذج وتبعاً لروافد كل تجربة ، لكن جميعها كانت تلتقي عند عامل سيطرة الاعراف والتقاليد العشائرية التي عادة ما تختلط في كثير من الاحيان والمواضع بخرافات وصور وتفسيرات شعبية للدين بطريقة تجعلها تصل الى حد التقديس . نظام كرس العبودية والتبعية للقائد وبموجبه تعطل الفكر والعقل وسادت مشاعر الخوف والخضوع ، وماعاد هنالك من فرصة لان يأخذ المثقف دوره كاملاً في الحياة بل تعمد هذا النمط من النظام الذي امتد لاكثر من نصف قرن ان يهمش دوره تماماً في صناعة الحياة .ليبقى المواطن العربي يحيا اسير الماضي بكل سذاجته وبساطته وتخلفه ولم يكن يرى الغد الاّ على صورة الماضي الذي طالما مجده القائد بكل منظومة الثقافة التي اسسها في نظامه منتقياً فيها صوراً بعينها من التاريخ البعيد لم تكن تخرج عن اطار الحروب والمعارك والغزوات التي يعج بها الماضي البعيد ،مستبعداً ومتجاهلا عن غفلة وعن عمد صوراً اخرى تؤكد على التسامح والاخوة والانسانية بين البشر والشعوب طالما حفل بها التاريخ العربي والاسلامي . ونشأ بناءً على ذلك نظام سياسي لايحترم الحرية الانسانية ولايمجد العقل .ووفقاً لهذا السياق كان لابد ان ينهارهذا النظام القائم على سلطة الخوف ماأن يَكسِر المجتمع فيه حاجز الخوف . فاتورة الثورة الرقمية لكن لحظة الانهيار للنظام السياسي العربي الذي تأكسد بتقادم الزمن والتي استغرق مجيئها زمناً طويلاً جداً ، جاءت ، بعد أن توفرت لها وسائل وظروف موضوعية عمّت اركان الكرة الارضية ووصلت الى الشعوب العربية التي ظلّت تعاني الكثير من التراجع والتخلف عن بقية الشعوب ، وقد جاءت هذه اللحظة مع مجيىء ثورة الاتصالات الحديثة من موبايل وانترنيت ، كانت هذه الوسائل الرقمية ادواة ثورية جديدة كانت الناس المقهورة بأمس الحاجة اليها حتى توصل للعالم صوتها ، ولقد استوعب شباب العرب بسرعة كبيرة هذه التقنيات الحديثة بالاتصال مما مكنهم من التعامل معها واستثمارامكاناتها بطريقة ثورية لم تكن ابداً في حسابات النظام السياسي العربي التقليدي ، ولو كان هذا النظام يعلم انه سيدفع فاتورة هذه الوسائل التكنلوجية الرقمية من وجوده بهذه السرعة وهذه الطريقة الدراماتيكية لما سمح مطلقاً بدخولها ووصولها. . القطيعة مع الماضي اذن نحن امام مرحلة جديدة تعود فيها مصر مرة ثانية لتلعب دوراً ريادياً في تأسيس نظام سياسي عربي جديد يضع حداً فاصلاً مع نظام سياسي عربي قديم كانت هي ايضاً المسؤولة عن بنائه وتعميمه الى بقية شعوب المنطقة العربية . فمايحدث فيها الان بعد ثورة شبابها المتعلم في 25 يناير كانون الثاني من حوار ساخن جداً مابين القوى السياسية مع بعضها من جهة وبينها وبين اركان النظام السياسي المنهار من جهة اخرى . يشير الى ان مصر تخوض الان مرحلة من اهم مراحل تاريخها المعاصر بعد انقلاب يوليو العسكري عام 1952 . ولن تقتصر نتائج هذا الحوار الجاد والعميق على مصر وحدها بل سيتعداها الى معظم الدول العربية . اننا لم نشهد في منطقتنا العربية ثورة شبيهة بتلك التي تعيشها مصر هذه الايام . فهي ثورة تحمل نمطاً وشكلاً واداوتاً غير التي تعودنا عليها خلال تاريخنا السياسي المعاصر منذ منتصف القرن الماضي ،فهي اولاً ثورة تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية بزعامة مجموعة من الشباب الذي ينتمي الى طبقة اجتماعية مرفّهة اقتصادياً وتلقى تعليمه في ارقى المدارس والجامعات الاجنبية وهذا امر لاسابقة له في تاريخ الثورات العالمية التي شهدتها البشرية على طول تاريخها القديم والحديث . فمعظم الشباب الذي دعا الى الثورة ضد النظام القائم لم يكن يعاني من فقر ولانقص في التعليم ولامن مكانة اجتماعية متدنية . وجل ماكان هذا الشباب يسعى اليه من وراء ثورته هو تحقيق تغيير جذري لشكل ونمط الحياة التي يعيشها المجتمع . اضافة الى ذلك ، فأن اهمية هذه الثورة يأتي من عوامل اخرى منها : اننا لم نرى فيها توجّهاً من قبل الثائرين للسيطرة على وسائل الاعلام لقراءة البيان رقم واحد كما تعودنا في تاريخ الانقلابات والتغيرات السياسية التي شهدناها في منطقتنا ، ولم نرى فيها ايضا قادة جيش يتصدرون شرفة القصر الرئاسي او وزارة الدفاع ليحيوا الجماهير التي تهتف للثورة ، كما لم نرى صوراً لرموز النظام المباد وهي تغرق بدمائها على صفحات الجرائد . ولم نرى غياباً تاماً لوجوه السلطة القديمة عن المشهد الجديد ، كما لم تنتهي الثورة في حسم وجود النظام القديم بساعات معدودة . ايضا لم تقدّم الثورة رمزاً واحداً يمثلها، ولم يرفع الثوار شعارات فضفاضة تهاجم الاستعمار والامبريالية والصهيونية وتدعو لتحرير الارض المغتصبة طالما تعودنا عليها في مثل هكذا احداث . الثورة هذه ابنة عصرها ، ولاتنتمي مطلقاً لما جاء قبلها من ثورات ، وكان حضورها في المشهد السياسي العربي اعلان قطيعة مع الماضي بكل رموزه ، انظمةً ًحاكمة ًواحزاباً معارضة . هي قطيعة شبه تامة مع منظومة ثقافية ومعرفية متهرئة ،لم تعد تصلح لللاجيال الجديدة الطالعة في القرن الواحد والعشرين . وهذا ما يستوجب من كل القوى التي كانت تنظّر وتثقّف وتُمنهج التعليمَ في كل المراحل الدراسية ان تتنحى . كما ينبغي ان يتم تغييركل المناهج الدراسية والتربوية القائمة والتي لاتنتمي الى هذا الجيل الجديد والتي طالما كرست ثوابتاً وافكاراً وعلوماً مزقت هوية الوطن والمواطن، وسلبت منه وطنه وحريته ، وقسمته بين انتماءات طائفية وعرقية وقومية وعشائرية باتت مقدسة اكثر من الانسان نفسه في وطنه .