أن جزءً كبيراً مما كشفه موقع " ويكليكس " عن الأنظمة العربية كان معروفاً لإسرائيل وأجهزتها الأمنية، إما على شكل مادة معلومات تحصل عليها الأجهزة الاستخبارية، ويطلع عليها صناع القرار، أو بواسطة التعاون والتنسيق الأمريكي الإسرائيلي، الذي يقتضي ضمن أمور أخرى أن تطلع واشنطن تل أبيب على الكثير من خبايا ما يحدث في العالم العربي، ومع ذلك فإن إسرائيل اطلعت على بعض المعلومات المتعلقة بالعالم العربي لأول مرة، بفضل " ويكليكس ". ولكن الكشف عن المعلومات، سواءً تلك التي كانت تعرفها إسرائيل من قبل، أو تلك التي لم تكن على اطلاع عليها خدم بشكل كبير المصلحة الإسرائيلية، حيث عملت هذه المعلومات على تطمين صناع القرار في تل أبيب بشكل واضح على مستقبل الأمور في العالم العربي. لقد شكل الكشف العلني عن بعض المعلومات السرية التي كانت معروفة بالنسبة لإسرائيل من قبل، وتحديداً مطالبة الكثير من الأنظمة العربية الإدارة الأمريكية بضرب إيران والقضاء على برنامجها النووي، خدمة كبيرة وهائلة لماكنة الدعاية الإسرائيلية، ولم يتوان المسؤولون الصهاينة عن توظيفها بشكل كبير لخدمة أهدافهم. فإبتداءً من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وانتهاءً بكبار موظفي وزارة الخارجية، حرص المسؤولون الإسرائيليون على القول ليس فقط للرأي العام الإسرائيلي والرأي العام العالمي، بل للرأي العالمي العربي والفلسطيني تحديداً أن الأنظمة العربية تتبنى تماماً نفس خارطة التهديدات التي تتبنها إسرائيل، بتركيزها على إيران، وأن هذا يدلل بما لا يدع مجالاً للشك على أن العرب – وبخلاف الانطباع السائد – لا يعتبرون أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية التي يتوجب توظيف الطاقات من أجل حلها، ولا نريد هنا الإشارة إلى فيض المقالات التي زخرت بها الصحف الإسرائيلية والتي تكرس هذا المعنى وتبرزه. وقد اعتبر كل من صناع القرار والنخب المثقفة الصهيونية على أن ذلك يدلل بما لا يدع مجالاً للشك على أن الجهود الدولية الهادفة لحل الصراع مع الإسرائيلي العربي وتحديداً الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مبالغ فيها، وأن بعض الأطراف الدولية هي " ملكية أكثر من الملك "، كما قال الصحافي الإسرائيلي أرييه شافيت. في نفس الوقت فإن كشف وثائق " ويكليكس " بالوقائع المفصلة عن مدى استخفاف الحكام العرب بحياة وكرامة مواطنيهم وإنسانيتهم، مثلت مادة دعائية لكثير من الكتاب الصهاينة الذين اعتبروا أن التركيز على الممارسات الصهيونية الإجرامية ضد المدنيين الفلسطينيين هو تعاطي غير موضوعي، وأنه كان يتوجب أولا الدفاع عن حياة وكرامة وإنسانية الإنسان في الدول العربية الأخرى. بعض المعلومات وإن لم تكن جديدة بالنسبة للإسرائيليين، إلا أنها مثلت مصدر طمأنينة، سيما التقارير التي أرسلت بها بعض السفارات العربية والتي تؤكد أن الجيوش العربية ليس فقط لا تعتمد على التكنلوجيا العسكرية المتقدمة، بل أن قيادتها ترفض من حيث المبدأ التعاطي مع هذه التكنلوجيا، مع العلم أنه بات في حكم المؤكد أن حسم الحروب لم يعد ممكناً بدون هذه التكنلوجيا. ومما شك فيه أن هذه المعلومة تحديداً تؤكد النسق العام الذي كرسته معلومات " ويكليكس " بأن آخر ما تضعه الأنظمة العربية في حساباتها مواجهة التحديات الخارجية، وليس بالضرورة أن تكون إسرائيل. في نفس الوقت فإن ما كشفت عنه وثائق " ويكليكس " بأن رئيس الموساد المنصرف مئير دجان قد أخبر الأمريكيين بأن الموساد يعمل داخل العراق، في حين أبلغ نتنياهو وفداً أمريكياً أن هناك تعاون اقتصادي وتجاري بين العراق وإسرائيل، يدلل على حجم التغييرات التي طرأت على العلاقات الإسرائيلية العربية من ناحية عملية وبعيداً عن المزايدات الإعلامية العربية على هوامش مؤتمرات القمم. وبشكل عام فإن ما كشفه " ويكليكس " شكل بالنسبة للأغلبية الساحقة من النخب الإسرائيلية دليلاً على أن سيادة الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي مصلحة إسرائيلية من الطراز الأول، كما قال الجنرال يعكوف عامي درور، الذي شغل في الماضي منصب رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرئيلي. أما ما كشفه " ويكليكس " عن العلاقات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وإن كان لا يعد جديداً بحكم الممارسة العملية العلنية، فإن " ويكليكس " وثق في الواقع بشكل مفصل معلومات ذات قيمة في فضح دور سلطة رام الله الحقيقي. فعندما يخبر رئيس جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلي " الشاباك " أن الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة سلام فياض تطلع " الشاباك " على كل المعلومات التي تحصل عليها، فإن هذا يدلل على أن هناك إقرار إسرائيلي نادر بأنه في الوقت الذي تجمد فيه إسرائيل المفاوضات وتواصل الاستيطان في القدس والضفة الغربية وتتحدى العالم وتهين قيادة السلطة وتخلع الألقاب المهينة على قادتها، فإن الأجهزة الأمنية الخاضة لإمرة رئيس السلطة محمود عباس تعتبر شريكاً أساسياً ومهماً في الحرب على المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، على اعتبار أن أجهزة سلطة رام الله تحرص بكل قوة على جمع أكبر قدر من المعلومات عن المقاومة في قطاع غزة. قصارى القول أن ما كشفه موقع " ويكليكس " شكل مصدر إطمئنان بالنسبة للصهاينة، وفي في المقابل دلل على الواقع البائس الذي يحياه العالم العربي، وهذا بكل تأكيد يجب أن يكون حاضراً لدى وضع الكثير من المقاربات المتعلقة بالصراع، فمن الواضح إن إسرائيل تعمل في فضاء مفرغ من أي أثر للفعل العربي المضاد.