من المعروف جدا ان العلاقات الدولية تقوم على أساس المصالح المتبادلة ، وان الدول تسعى من اجل تحقيق حراك دبلوماسي ناجح تحصل من خلاله على اكبر قدر ممكن من"المنافع". حيث ان "الكلفةالمنفعة " هي أساس أي حراك دبلوماسي ، بل ان أي حراك دبلوماسي بدون "منافع" يكون غير ذي جدوى . و لذلك فان التحكم في النظام الدولي ينطوي على مشكلة اقتصادية جوهرية . فبرغم ان السيطرة على نظام دولي توفر منافع اقتصادية (عوائد)للقوة او للقوة المهيمنة . فأن الهيمنة تنطوي أيضا على تكاليف في القوة البشرية والموارد المالية للحفاظ على الموقع المهيمن للدولة . و هذا الكلام ينطبق على الدول العربية كما ينطبق على تركيا و إيران ايضا فكل الدول تبحث من خلال حراكها الدبلوماسي تحقيق (منافع) مقابل تخليها عن بعض الامتيازات سواء كانت سياسية او اقتصادية او معنوية (تكلفة) . و لذلك فان "إيران " مثلا حاولت الحصول على (منافع) في البلدان العربية المجاورة و لهذا الغرض في قدمت تكلفة كبيرة سواء بما قدمته من دعم سياسي او لوجستي لكثير من التيارات والأحزاب المختلفة ربما حتى المختلفة معها أيدلوجيا و مذهبيا على اعتبار ان إيران دولة مذهبية أكثر منها أسلامية . بهدف خلق شرائح ممكنة التغلغل والتأثير في مركز القرار و بتالي يمكنها ان تجني ما أنفقته من (تكلفة ) على شكل (منافع) مختلفة أيضا ، وهذا ما حصل مع العراق ولبنان و فلسطين و سوريا ، ولاشك ان التكلفة في هذا الجانب كانت كبيرة جدا . الا ان التكلفة الأكبر هي الحرب العراقية الإيرانية والتي دامت أكثر من (8) سنوات وكان من نتائجها (منافعها ) أضعاف اقتصاد نظام العراق الحاكم آنذاك اقتصاديا و من ثم و وقوعه في كثير من الأخطاء القاتلة فيما بعد والتي أنهت عهدا لنظام كان من الممكن ان يكون بمثابة الرمح المغروس في الخاصرة الإيرانية .. في حين الأتراك لم ينتهجوا المنهج الإيراني للحصول على (منافع) من المحيط العربي ( فتركيا ليست مستعدة أبدا (لتكلفة ) بقدر التكلفة الإيرانية . بل أنها تركت إيران تتخبط في المحيط العربي خصوصا بعد ان امقت العرب إيران الفارسية الشيعية التي تريد ان تصدر ثورتها على حساب العرب السنة . في حين ان تركيا كانت تقدم (تكاليف ) متواضعة لكنها فعالة مثل دخولها كوسيط حوار بين "اليهود الصهاينة" و بين العرب . لذلك فان تركيا و على مدى أكثر من 18عام حازت على احترام العرب و ثقتهم بعكس إيران التي شوهت توجهاتها صورتها في أعين العرب. الا ان تركيا عرفت كيف تستغل الفرصة ،خصوصا بعد تفاقم "ظاهر النينو " المناخية و تعرض المنطقة للجفاف و بتالي تصحر محتمل نتيجة لقلة الأمطار و فوق كل ذلك .انهيار نظام الحاكم في العراق على يد الاحتلال الأمريكي والذي اخل في موازين القوى في المنطقة فجعلها مطمعا لكل من هب و دب من الدخول خصوصا تركيا المتربصة وإيران المتغلغلة . لكن العرب لهم موقف مغاير تماما في وسط هذا الزحام فهم راديكاليون فيما يخص العلاقات السياسية العربية لكنهم براكماتيين مع شعوبهم و هذا الازدواج السياسي خلق "عقدا" او بالتعبير الأدق "عرفا" اجتماعيا متناقضا استحالت معه توحيد الجهود العربية من اجل بناء سياسي عربي متكامل بل ان التشرذم والاحتراب العربي و الاختلاف كان و لا زال هوا لصورة الأصدق للمشهد العربي . المياه أصبحت مشكلة حقيقية للعراق و سوريا خصوصا بعد ان أقامت تركيا عشرات السدود على نهر الفرات أضخمها "سد أتاتورك " والذي بمقدوره منع أي قطرة مياه من ان تنساب في نهر الفرات ولذلك فان ناقوس الخطر قد دق في العراق في ظل حكومة تعصف بها الفوضى والفساد المالي والإداري و على كل المستويات بالإضافة لما قامة به الجمهورية التي تنعت نفسها بالإسلامية الإيرانية بتغيير مجرى رافدي نهر ديالى و تحويلهما كليا عن الأراضي العراقية ، و كذلك بناء سد على نهر "الكارون " و حرمان العراق من 30%من المياه التي تزود نهر دجلة وشط العرب بما حدى "بالمد العكسي/الراجع" للخليج العربي ان يصل الى "كرمة على " منطقة التقاء دجلة بالفرات . ان انخفاض مناسيب نهر الفرات أجبرت الحكومة العراقية على تعويضها من نهر دجلة والذي انخفض منسوب المياه فيه لذات السبب . لقد تحول حوض نهري دجلة والفرات بسبب الجشع السياسي لكل من إيران و تركيا في العراق إلى "حوض جاف" بل ان التحكم بالمياه بهذه الطريقة ينذر بكارثة بيئية وإنسانية خطيرة من الممكن ان يتحول معها وادي الرافدين الى قفار صحراوية ميتة . عموما لقد نجح الأتراك بعد كل هذا الجهد المضني من تحويل المياه الى سلعة اقتصادية يقايضونها بالنفط و الغاز مع باقي المنتجات الاقتصادية . ان شحت المياه و الخلافات المستمرة بين العراق و سوريا و عدم قدرت البلدين الشقيقين من حل مشاكلهم خصوصا بعد الاتهامات التي قدمتها بغداد لدمشق كونها الأخيرة تؤمن ملاذا أمنا لقتلة الشعب العراقي او ان سوريا تمثل القاعدة التي تدار من خلالها العمليات الإرهابية و التخريبية في العراق . مثلت المفتاح الذي فتح خزائن العراق و بلاد الشام أمام البراكماتية التركية في ظل غياب عربي مقيت أشبة ما يكون بسبات أهل الكهف عليه السلام الا ان هؤلاء المستعربين لا عليهم السلام .. ان زيارة "اردوغال " يوم السبت للعراق شهر تشرين الأول والتي أفضت الى عقد 48أتفاقية مختلفة من بينها اتفاقيات اقتصادية تصل قيمتها الى أكثر من (20)مليار دولار هي في الحقيقة"اتاواة اقتصادية" تركية فرضت على العراق أكثر منها اتفاقات اقتصادية متكافئة . نرجع " للقوقعة العربية" لو ان في العرب دولة تقوم مقام الأتراك والإيرانيين في ملئ الفراغ السياسي الحاصل و تحصل على اتفاقيات اقتصادية مهولة كما حصلت تركيا و ستحصل على المزيد في المستقبل أفضل ام الابتعاد العربي و التقوقع في حلزون الهواجس من احتواء الأتراك والإيرانيين و سلب عروشنا التي بات حكامنا مسخ تماثيل كسيحة او جزئ من خشبها المتهرئ الذي تزينه مسامير الذهب لحكم شعوب أضناها الجوع والفقر و الجزع .