مظاهرة جرت مؤخرا بشارع الحبيب بورقيبة في قلب العاصمة التونسية ضمت مجموعة من الشباب الملتحين الغاضبين. أعلام سوداء كتب عليها بالأبيض شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، لافتات تشير بعضها إلى أن 'الحجاب حكم الله' و'لن نسكت عن أعراضنا بعد اليوم'، فيما يحمل بعضها الآخر صورا للزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة والباجي قائد السبسي الوزير الأول في الحكومة التونسية المؤقتة الحالية واصفة إياهما بأنهما 'ضد الإسلام' وبأنهما 'وجهان لعملة واحدة'. طريقة لباس هؤلاء الشباب ولحاهم الطويلة والعمامات التي يضعونها على رؤوسهم جعلت الصديق الذي بعث لي بصور هذه المظاهرة يختار لها عنوانا صادما هو تورا بورا في تونس! (الكلمة الأولى هي سلسلة جبال أ شرق أفغانستان تحصن فيها مقاتلو 'طالبان' و'القاعدة' عندما هاجمتهم طائرات حلف الأطلسي نهاية عام (2001). هؤلاء الشباب هم من التيار السلفي الذي لم يكن له تاريخيا أي وجود في البلاد لكنه انتعش في السنوات الماضية على حساب حركة 'النهضة' الأقوى تقليديا بين كل التوجهات الإسلامية في تونس بعد أن تعرضت لحملة قمع شرسة لأكثر من عشريتين على الأقل في عهدي كل من بورقيبة وبن علي. لم يكن معروفا في تونس سواها إلى جانب من يطلق عليهم 'اليسار الإسلامي' أو 'الإسلاميين التقدميين' وتيار 'التبليغ' الذي عومل عموما ببعض التسامح لما عرف به من عدم التدخل في السياسة إلى جانب وجود محدود جدا لعناصر من 'حزب التحرير الإسلامي'. ويشير بعض المتابعين عن كثب للساحة التونسية إلى أن هذا التيار السلفي لم يولد أصلا إلا في سياق هذا التراجع لحركة 'النهضة' الإخوانية التوجه. ويضيفون أن ما غذى هذا التيار، والذي قد يكون من بينه من هو 'سلفي جهادي'، مجموعة القنوات الفضائية الدينية، الخليجية بالأساس، التي روجت لهذا النوع من التفكير الذي وجد له سوقا في مناخ التصحر والتفاهة السياسية والثقافية والفكرية الذي أرساه نظام بن علي. ورغم ما يبدو عليه حضور هذا التيار من نشاز في الساحة التونسية الاجتماعية منها والسياسية إلا أن ذلك يجب ألا يقود إلى مصادرة حق أي كان في أن يعبر عن آرائه طالما تجنب العنف في محاولة الترويج لها وفي تعاطيه مع المختلفين معه. ما يقال عن العائلة الإسلامية في تونس يمكن أن يقال أيضا عن العائلات القومية واليسارية والليبرالية والعلمانية. لكل منها عقلاؤه ومتشددوه والحل ليس في إسكات هذا والسماح لذاك بل الكل مدعو الآن للإدلاء بدلوه في الشأن العام وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. يكفي البلاد ما عاشته لعقود من وصاية على الأفكار وتكميم للأفواه فقد آن الأوان لنعرف جميعا ما يتفاعل حقا في مجتمعنا من أفكار بغض النظر عما إذا كانت ترضينا أو تستفزنا، مُواكبة للعصر أو موغلة في التخلف. آن الأوان أيضا لترك الشعب يتعرف على كل الأطروحات والمشاريع ليفرز الغث من السمين ويقرر مصيره عن بينة وبصيرة. وبغض النظر عما نراه مبشرا بالخير للبلاد وما هو منفّر وحتى مخيف، فإن الإيمان بقواعد اللعبة الديمقراطية ونضج الشعب ستكون لها الغلبة على ما سواها لسد منافذ أي تنظير للدكتاتورية أو تعداد 'محاسنها'. لم تعرف تونس أجواء من الحرية خرج فيها الجميع من تحت الأرض سوى في ثلاث مناسبات: عام 1981 في بداية عهد رئيس الوزراء الراحل محمد مزالي انتهت عام 1984 مع 'ثورة الخبز، وفي السنتين الأوليين من حكم بن علي الذي اعتلى الرئاسة عام 1987، وما يحدث الآن بعد انتصار ثورة 14 يناير الماضي. الأولى والثانية كانت عبارة عن قوسين عابرين مغلقين فيما المطروح الآن أن تتحول الحرية الحالية إلى منهج دائم للحكم والمجتمع يختار فيه الناس في النهاية بين المشاريع المطروحة المتداولة في انتخابات حرة وديمقراطية لم يعرف الشعب من قبل طعما لها أبدا.