مع حلول فصل الصيف يستعد مئات الملايين من الناس في كافة أرجاء المعمور لتمضية الأجازة السنوية بالسفر، داخل الوطن أو خارجه. و لا شك أن اختيارهم للوجهة السياحية المفضلة تحدده كثير من العوامل و منها ما تختزنه ذاكرتهم من صور و تمثلات، تلعب وسائل الإعلام المرئية دورا حاسما في ترسيخها و ترويجها كونيا. فالعمليات الإرهابية البشعة التي ضربت مؤخرا كلا من فرنسا و تركيا و بلجيكا و أمريكا و مصر و أندونيسيا و تونس الخ و ما رافقها من مشاهد القتل و الدمار و مشاعر الهلع و الرعب، كان لها وقع وخيم و آني على السياحة في تلك البلدان. و لحسن حظ القطاع، فالذاكرة البشرية قصيرة، و ما إن تهدأ الأوضاع حتى يعود تدفقُ السياح إلى أماكنهم المُحَببة. *** تُعْتَبرُ السياحةُ القطاع الإقتصادي الأشد ارتباطا بالوضع الجيوسياسي الدولي، كما توضح الحالتين التاليتين : – 1 – تركيا : حيث كانت للهجمات الإرهابية التي ضربت البلد (خصوصا مطار اسطنبول) تداعيات مهمة على السياحة، التي صارت تمثل نسبة معتبرة في الناتج الداخلي الخام (4،37% سنة 2015). خلال سنتين، و نتيجة للإرهاب، انخفضت السياحة بتركيا الى قرابة الثلث (في بداية 2016، تم تسجيل ناقص 30 % ). مما أثر سلبا على قطاعات معينة و خلق نقطا جغرافية سوداء (منكوبة) مثل مقاطعة “انتاليا” في جنوب البلاد- و يُرْجعُ بعض المتتبعين أسباب استهداف الإرهاب لتركيا إلى سياسات الدولة (الإرهاب “الداعشي” مرده التباس الموقف التركي اتجاه الوضع في سوريا، و أما مقابله الكردي فمنشأه النزعة القومية المتطرفة. و كلاهما مرتبط بصراع القوى الكبرى في المنطقة)- لكن مقارنة بتونس، لا تشكل السياحة في تركيا أهمية عظمى، إذ نَوعت الأخيرة اقتصادها. – 2- مصر : أدى الإرهاب الذي ضرب “مصر” إلى نهاية “الريع السياحي” و إعلان كارثة اقتصادية بحيث انخفض الإنتاج الوطني ب 20%، مما يدل على الأهمية القصوى للسياحة في هذا البلد (11 % من الناتج المحلي الإجمالي) . و هناك منطقتين سياحيتين : منطقة النيل (الأهرامات) و شبه جزيرة سيناء التي أُفْرغَتْ بسبب الحرب الضروس ضد الجهاديين الذين يقتلون بإيقاع شبه أسبوعي رجال الأمن و الجيش. بل تَم تَفْجيرُ طائرتين “سياحيتين” خلال الشهور الماضية. مما زاد في تأزيم الوضع، خاصة و أن الرئيس “السيسي” كان وَعَدَ، بعد انقلابه العسكري، بضمان الإستقرار و الرخاء الاقتصادي بإنعاش السياحة و بعض القطاعات المربحة الأخرى. و من المحتمل أن يكون وَقْعُ الإرهاب قد مَس الملاحة في قناة السويس التي تشكل أهم مصادر الدخل بمصر (5،3 مليار دولار، سنة 2015 ). *** إن هدف الإرهاب المعاصر ليس قتل الأبرياء فقط، بل الإقتصادات و من خلالها الأنظمة السياسية الحاكمة – فالصدى الإعلامي لهجمة إرهابية في مطار دولي ما يكون لها أثر بالغ في النفوس (السلوك الإقتصادي للأفراد)- في حالة العالم العربي، تبرز علاقة شبه تلقائية بين الإرهاب و السياحة. بما أن القطاع السياحي يشغل العدد الأكبر من اليد العاملة الرخيصة (البروليتاريا)، التي لا تحتاج الى تكوين معقد، مثل الباعة المتجولين و الموسميين العاملين في الشواطئ و الفنادق و اماكن الترفيه، و الخدم، الخ، فغالبا ما تكون نتيجة استهداف الإرهاب لتلك البلدان المزيد من البطالة و الفقر المُغَذي للحقد المجتمعي. مثل تونس التي تخضع السياحة فيها لتقلبات المنطقة بسب حدودها مع ليبيا المفككة حيث تتنامى المجموعات الإرهابية (تُشَغلُ 14 % من الساكنة النشيطة). و ثمة حالات أخرى مختلفة، كالجزائر التي أغلقت مجتمعها و جغرافيتها في وجه الأجانب، نتيجة سياسة “بارانوية” (تعود إلى “العشرية السوداء”)، ولأنها فقط دولة تعيش على الريع النفطي-الغازي (لكن إلى متى؟). يبقى المغرب الوجهة المفضلة للسياح من مختلف بقاع الأرض (خصوصا، الأروبيون)، و الأنجح لاسيما في ميدان التصدي للإرهاب و التطرف، بفعل تبني مقاربة أمنية فعالة ضمن إصلاحات شمولية (سياسية، اجتماعية، دينية و تربوية) يقودها بحنكة الملك محمد السادس. و الدليل أنه منذ سنة 2011 لم يقع أي حادث إرهابي بالمغرب، و السياح يعودون للبلد بقوة (حوالي 10 مليون سائح، سنة 2014). بل يُعَابُ على مُدبري قطاع السياحة بالمغرب عدم الإستفادة من الوضع الجيوسياسي الملائم لإستجلاب أكبر عدد ممكن من السياح *** حسب أرقام المنظمة العالمية للسياحة (مقرها في مدريد)، يوجد في العالم حوالي 1.133 مليار سائح (بعائدات ضخمة تناهز 1.245 مليار دولار)- تستقطب أوربا نصفهم تقريبا (582 مليون). و تبلغ حصة المنطقة المتوسطية بضفتيها حوالي 330 مليون سائح- و خلال 2014 زار فرنسا 83،7 مليون سائحا. و هي الوجهة السياحية الأولى عالميا، و الرابعة من حيث المداخيل ب 55،4 مليار دولار. و تحتل اسبانيا المرتبة الثالثة دوليا (68 مليون سائح) و الثانية على مستوى حجم المداخيل (65،2 مليار دولار)، بعد الولاياتالمتحدةالامريكية (إحصاءات 2014 ). لكن ما يشد الانتباه في المنطقة المتوسطية هو التغيرات الفجائية للحركة السياحية الناجمة عن العمليات الإرهابية غير المتوقعة. (فجأة تفقد تركيا قوة جذبها لصالح المغرب، مثلا). إلا أن أضرار تلك الضربات أكثر إيجاعا للمجتمعات المستقبلة في ضفتها الشرقية (مصر، تركيا، لبنان، سوريا) إذ تضم السياحة انشطة متعددة، و تساهم فيها سلسلة اجتماعية-اقتصادية جد معقدة تبدأ من الأشد فقرا و تنتهي بالأفحش غنى. و تبقى دول الضفة الشمالية للمتوسط المستفيد من هذه الأوضاع، لاسيما اليونان و اسبانيا و مؤخرا البرتغال، التي تتلقف العائدات المالية السياحة المذهلة الفجائية (كهبة سماوية) للتخفيف من وطأة أزماتها الخانقة. *** و ثمة عوامل أخرى تعمل على خلط الأوراق في المشهد السياحي الدولي. إذ يكفي فقط اندلاع صراع مسلح، او ظهور وباء ما (فيروس “سارس” في آسيا ، “إيبولا” في أفريقيا)، أو وقوع كارثة بيئية (تسرب نفطي)، أو حادثة معينة (انفجار مُفاعل “تشيرنوبيل”) أو إرتفاع في معدل الجريمة يتم تداوله إعلاميا لتغادر بغثة أفواج هامة من السياح بلدا ما، و يجد نفسه في صعوبات جمة و عجز مالي كبير… فمن كان يوما ما يفكر في زيارة بلدانا مثل “المكسيك” و “غواتيمالا” و “البيرو” التي كانت إلى حدود الأمس غارقة في الحروب الأهلية ؟ اليوم، تُصَنفُ أمريكا اللاتينية منطقة آمنة مقارنة بحوض المتوسط. و من كان يتخيل قبل 20 سنة خلت أن تصبح الصين حاليا المصدر الأول للسياح في العالم ؟ لو أردنا رسم خريطة للمخاطر المُهَددة للسياحة (لأسباب إرهابية) فإننا سنكون أمام قوسين جغرافيين : يمتد الأول من الباكستان ( جنوب آسيا) إلى موريطانيا (المحيط الأطلسي) مع ضم كامل الضفة الجنوبية للمتوسط (باستثناء المغرب). و أما الثاني فيمتد من الشرق الأوسط إلى منطقة الساحل و جنوب الصحراء الكبرى. و يمكن القول ألا منطقة في العالم أضحت اليوم في منأى عن الإرهاب المُعَولم و المتعدد الأشكال. لمواجهة الإرهاب بجدية لابد للمجتمع الدولي الفاعل من الوضوح و الخروج من الإزدواجية التي تغذيه لأهداف جيوساسية ميكيافيلية