مضمون المواد التي احتوتها مسودة مشروع القانون الجنائي، ومضمون الخطاب الرسمي، الذي يستند إليه المدافعون عنها، يفرضان إعادة طرح أسئلة أولية، خِلنا، أو خال البعض منا، في وقت من الأوقات، ربما، أن أجوبتها محسومة وأنها أسئلة ما كان يجب، في الأصل، أن تُطرح؛ ومن هذه الأسئلة، مثلاً : ما وظيفة القانون الجنائي؟ وهل يتولى ضبط الأخلاق، داخل المجتمع، أم إن دائرة القواعد الأخلاقية هي، دائما، أوسع من دائرة القواعد الجنائية؟ القانون الجنائي ليس ملزما بالتدخل في كل حالة تَمَّ فيها خرق القواعد الأخلاقية المتعارف عليها في المجتمع، ولهذا فلا يُتَصَوَّرُ، مثلاً، أن يعمد القانون الجنائي إلى المعاقبة على النفاق والكذب المجرد وإساءة معاملة الناس وعدم حفظ الأسرار وعدم الإحسان إلى من يجب الإحسان إليه والنميمة والوشاية والتكبر وعدم رد التحية والتأخر في المواعيد …إلخ. القانون الجنائي يتدخل عندما يكون الخرق الذي طال الأخلاق قد وصل إلى حد إحداث “اضطراب اجتماعي”، وذلك مثل حالة الكذب الذي يُوقِّعُ ضحية النصب في الغلط أو الذي تقوم عليه شهادة الزور؛ هل العنف هو الوسيلة الوحيدة لضبط المجتمع وتنظيمه، وكل الوسائل الأخرى للضبط هي وسائل ثانوية، دائماً؟ وبعبارة أخرى، هل “القانون”، في أذهاننا، هو القانون الجنائي، وحده؟ هل نسينا، مثلاً، أنه، إلى جانب الجريمة الجنائية، هناك الجريمة المدنية، والجريمة التأديبية. القانون المدني يلقي على عاتقنا واجب الوفاء بالتزاماتنا التعاقدية وتحمل نتائج أخطائنا، حتى ولو لم تتخذ صورة خرق لقاعدة من قواعد القانون الجنائي، وتعويض الأضرار التي نتسبب فيها. والقوانين الإدارية والأنظمة المهنية تفرض علينا جزاءات مختلفة عن الإخلال بقواعد ممارسة المهنة أو الإضرار بمصالح الهيئة التي ننتمي إليها. القانون الجنائي، بحكم ما ينطوي عليه من عنف، هو بمثابة الكي، أي آخر الدواء، لا يجري اللجوء إليه، في مواجهة فعل معين، إلا في حالة الضرورة القصوى، وبعد أن نقدر أن الوسائل الأخرى، وحدها، عاجزة عن محاربة هذا الفعل. الوجه العنيف للدولة هو آخر ما يجب أن تظهر به، وكل ما لا نعاقب عليه جنائياً فإننا نحاسب فاعليه مدنياً أو إدارياً أو تأديبياً؛ واليمين المتطرف، في الكثير من الأحيان، يستعظم أدوار ووظائف القانون الجنائي، ويقع أنصاره، سريعاً، فريسة إغراء استعمال الردع والقوة والشدة، قبل أية وسائل أخرى، في التصدي للظواهر التي تتعارض مع أسس “النظام العام”. في فرنسا، مثلاً، وقع إلغاء الطابع الجنائي عن فعل الخيانة الزوجية، ولكن ذلك لا يمنع القاضي المدني من الحكم على الفاعل بتعويضات ثقيلة، بينما مقدار الغرامات محدد قانونياً بشكل مسبق؛ هل إحجامنا عن إفراد جزاء جنائي لأفعال معينة، يعني أننا، بالضرورة، نستسيغها ونقبلها ونؤيدها ونشجع عليها؟ إن ذلك قد يعني أننا نثق في قدرة المدرسة والأسرة والإعلام والمسجد والجمعية، ومختلف وسائل التنشئة، على الحد منها. هناك خطاب ظالم يذهب إلى أن كل من يطالب، مثلاً، بعدم تجريم المثلية والإفطار في رمضان والخيانة الزوجية و”الإساءة إلى الله”، يريد أن نتحول إلى مجتمع من المثليين والمفطرين في نهار رمضان والخائنين لأزواجهم والمسيئين إلى الله، وأنه لا يستقبح هذه الأفعال ولا يعي أضرارها وما يترتب عنها من آثار سلبية؛ هل القانون الجنائي هو، فقط، مجال لتسجيل المواقف، ولو بأي ثمن؟ هل ندبج النص الجنائي لكي نثبت لأنفسنا أننا مسلمون حتى ولو كان ذلك على حساب الحرية ومقتضيات دولة القانون؟ هل كل موقف فلسفي أو ديني يجب أن يجد له صدى في نصوص القانون الجنائي ولو بتجاهل تقنيات الآلة القانونية وإكراهاتها وضوابطها ومنطقها الداخلي؟ العقاب، من الوجهة القانونية، ليس سهلاً، إذ يجب ألا يؤدي إلى عكس المتوخى منه. إن الآثار الناجمة، أحياناً، عن محاولة العقاب عن بعض الأفعال، يمكن أن تكون أوخم من عواقب تلك الأفعال، نفسها؛ هل حميمية الناس بلا أدنى قيمة لدينا، وهل يحق لنا، باسم حق الدولة في العقاب عن جرائم أخلاقية، أن نخرق تلك الحميمية، في كل وقت وحين، وبناء على قرائن واهية وإشارات غامضة؟ هل للأفراد حق في احترام الدولة لحياتهم الخاصة والتزامها بعدم اقتحام فضائهم الخاص إلا في حالة الضرورة القصوى وبناء على اعتبارات استثنائية لها علاقة بأفعال تتعدى، من حيث خطورتها، الفعل الجنسي الرضائي بين بالغين؟ هل المُشَرِّعُ، وهو في طور وضع الصياغة القانونية، مدعو إلى مراعاة المشاكل التي أظهرها التطبيق والبحث لها عن حلول، باستعمال التقنية القانونية، أم إن تلك المشاكل لا تهمه ولا يجب أن تقع في دائرة اهتمامه باعتباره غير مسؤول عن مشاكل التطبيق؟ هل من المسؤولية أن يتجاهل المشرع الآثار الناجمة، من الناحية العملية، عن وجود كلمات فضفاضة أُسيء تأويلها، أو عن جنوح القضاة إلى ركوب طرق التفسير الواسع للنص الجنائي (الفصول 220 – 263 – 288..)؟ أليس من المنطقي، بالنسبة إلى مُشَرِّعٍ مُقَدِّر لقيمة مبدإ الشرعية، في كل مرة لاحظ فيها أن التأويل القضائي للنصوص قد تجاوز إرادته وأن النصوص قد استُعملت على وجه ضار بالحرية وماس بالحقوق المعترف بها للأفراد والجماعات، أن يحرص على وضع المزيد من الاحترازات في الصياغة وإعادة تدقيقها حتى لا تقع، دائماً، نفس المشاكل؟ وإذا كان عليه أن يقوم بواجبه هذا ، فإن “مشاكل التطبيق” قد تظل، مع ذلك، قائمة، بفعل معطيات البيئة التي يشتغل فيها القاضي ونزوع السلطوية، كلما أُغلق باب للتعسف، إلى فتح باب آخر؛ ما هو نوع العلاقة التي يجب أن تقوم بين قانوننا وقوانين العالم؟ وهل من حقنا أن نتجاهل التطور الذي حصل في القوانين الأجنبية، وخاصة تلك التي اسْتُمِدَّتْ منها مواد كثيرة في قانوننا الجنائي؟ وكيف سمح محررو المسودة لأنفسهم، مثلاً، بتكريس تبنيهم لقواعد هجرها مصدرها المادي مثل حالة(إيواء الأشرار)، كصورة عامة من صور المشاركة، والتي لم يعد لها أثر في نص المادة 7-121 من القانون الفرنسي؟ وإذا كانت كل دولة تضع قوانينها بما يلائم خصوصيتها وما تعتبره ثوابتها، فهل لها مطلق الحرية في تحديد هذه الثوابت، أم إن قبولها الانخراط في منظومة علاقات دولية، سياسية واقتصادية وثقافية، يفرض حدوداً على هذه الحرية؟ هل يدرك محررو المسودة أن تبنيهم للشدة التي تعاملت بها قوانين خليجية معينة مع الجرائم الماسة بالدين الإسلامي، يتناقض، عموماً، مع طبيعة النظام الجنائي العربي الذي انتمى إليه المغرب، دائماً، والذي يُعَدُّ الأقرب إلى النظم الجنائية الحديثة؟ وهل يرضى هؤلاء المحررون أن تصبح مدونتنا الجنائية عبارة عن خليط من القواعد المستقاة من أنظمة جنائية مختلفة جذريا ومتناقضة من حيث الأسس والمنطلقات؟ كيف تكون ممارسة فرد، أو بضعة أفراد، عبر سلوكهم أو قولهم، لقناعة، مخالفة لقناعة الأغلبية، استفزازاً لهذه الأغلبية ومساً بحقوقها؟ وإذا كنا نخشى رد فعل الجمهور، الحاضر في عين المكان، على مثل تلك الممارسة (الإفطار العلني في رمضان، مثلاً)، فهل مهمة القانون الجنائي هي أن يستمر في التبعية الدائمة لرد الفعل هذا أم إن علينا أن نُمَرِّن هذا الجمهور على التعايش مع موقف الأقلية؟ ولماذا لا تبذل المؤسسات المعنية، من علماء وهيئات دعوية وإعلام عمومي، أي مجهود يُذكر لحمل الناس، انطلاقاً من القاعدة الإسلامية “لا إكراه في الدين”، على احترام قناعة الأقلية وعلى عدم المس بالسلامة البدنية للأشخاص أو بأمنهم وطمأنينتهم وحقوقهم؟ كيف نمارس المزايدة، على بعضنا البعض، في التنديد بظاهرة الإفطار وشحن الناس ضد المفطرين، ثم نعتبر أن معاقبتهم تفرضها ضرورة حمايتهم من رد فعل هؤلاء الناس الذين تولينا شحنهم؟ ولماذا لا يشعر الصائم، تطوعاً أو أداء لكفارة أو دين عليه، في غير أيام رمضان، بأن مشاهد الأكل تستفزه؟ ولماذا لا يحس الصائم، في رمضان، بأن قيام أجنبي غير مسلم بالأكل أمامه يستفزه؟ ولماذا لا تتم متابعة الأشخاص الذين يعتدون على مفطر، حتى ولو تبين، في ما بعد، أنه كان يتوفر على عذر شرعي؟