يرى الدكتور عبد الرحيم العلام، الباحث في العلوم السياسية في هذا الحوار مع موقع "اليوم 24" أن النقاش الذي احتدم حول بعض بنود مسودة القانون الجنائي، ليس خلافا بين من يدافعون عن الدين ومن هم ضده، أي أن من ينتقد المسودة هو بالضرورة ضد الدين، وإنما الأمر يتعلق بنقاش عمومي حول مشروع قانون يمسّ حياة المغاربة، وعليهم أن يناقشوه، كما لهم أن يعترضوا على بنوده. مبرزا أن توصيف الأمر على أنه صراع بين الإلحاد والإيمان، لن يخدم العدالة ولن يساهم إلا في مزيد من التأزم". وأدلى العلام برأيه في هذا الحوار حول معظم القضايا التي شكلت نقطة خلاف في مسودة القانون الجديد.
كيف ترون الجدل القائم حول بعض فصول مسودة القانون الجنائي التي تهم مواضيع قيمية كالحريات الفردية بالأساس؟ لابد من توضيح مسألة أثيرت في خضمّ النقاش المحتدم حول الموضوع، إذ حاول بعضٌ توصيف الاختلاف الحاصل حول بعض البنود على أنه بين من يدافعون عن الدين ومن هم ضده، أي أن من ينتقد المسودة هو بالضرورة ضد الدين، حيث يُستغَل تركيز بعض منتقدي المسودة على المواد المتعلقة بالحريات الفردية، من أجل إشاعة تهمة "العداء للدين". والحال، أن الأمر يتعلّق بمسودة تتضمن العديد من الثغرات التي لم تقتصر على الحريات الفردية والمدنية، بل طالت حتى السياسية، وشملت رزمة من القضايا من قبيل تجريم أشكال من الإضراب، والتضييق على القضاة والنشطاء السياسيين، وفيها عدمُ تناسبٍ بين العقاب والجريمة في أكثر من موقع، فالأمر إذن يتعلق بنقاش عمومي حول مشروع قانون يمسّ حياة المغاربة وعليهم أن يناقشوه، ولهم أن يعترضوا على بنوده. أما توصيف الأمر على أنه صراع بين الإلحاد والإيمان، فلن يخدم العدالة، ولن يسهم إلا في مزيد من التأزم. فقضية الإعدام مثلا، محط اختلاف كبير ليس فقط بين الإسلاميين والعلمانيين، وإنما اختلف ويختلف حولها الكثير من المفكرين والسّاسة، سواء داخل التيار الإسلامي أو خارجه. فهناك من المفكرين المسلمين من يرفض الإعدام، ويوجد من العلمانيين من يدافع عنه، وهذا حال المجتمع الأمريكي الذي لاتزال توجد عقوبة الإعدام في بعض ولاياته، في حين ألغتها أغلب الولايات الأخرى. وما نقوله عن عقوبة الإعدام، نسحبه على باقي القضايا، لأن الأمر يتعلّق بالترجيح والمفاضلة، وليس بيقينيات، فتحقيق المصلحة العامة هو المحك الحاسم، بصرف النظر عن هوية الحجج سواء كانت دينية أم مدنية. وما الذي ترونه مناسبا فيما يخص عقوبة الإعدام؟ على المُشرّع أن يجتهد في صيغ جديدة للحدّ من عقوبة الإعدام، على الأقل حتى لا ينتج عنها ظلم المتهم، وحرمانه من الحياة، ثم يتّضح فيما بعد أنه بريء بعد ظهور أدلّة جديدة تؤكد ذلك، وفي هذا الصدد يمكن أن نقترح التنصيص على ألاّ تنفّذ عقوبة الاعدام في حق المدانين بها إلى بعد مرور 20 سنة على إصدار الحكم من أجل تجنب الأخطاء التي تصاحب الأحكام القضائية، أو تغير الظروف السياسية في حالة الأحكام الصادرة في حق المدانين في أعمال لها علاقة بالشؤون السياسية، دون أن يعني ذلك أننا نؤيّد الابقاء على العقوبة، خصوصا فيما يتعلق بما يمكن وصفه ب"الجرائم" ذات الطبيعة السياسية، وإنما الغرض من هذا الاقتراح هو التقليل من الآثار السلبية التي تنتج عن التنفيذ المتسرّع للعقوبة. المدافعون عن هذه المسودة يرون أنها جاءت لحفظ دين المغاربة من خلال تجريم سب الذات الإلهية والإساءة إلى الأنبياء والرسل؟ الحال أنه يصعب إيفاء الله حقه بهذه العقوبات التي تقل كثيرا عن عقوبة الإهانة المتعلقة بالملك أو أحد أفراد الأسرة الملكية، ولأن العلاقة بين الله وعباده تتّصل بالحساب الأخروي، وهي بذلك مؤجلة، ولأنه لو شاء الله لانتقم من كل من شتمه وما ترك ذلك لبشر كي ينوب عنه، فربما من الأفضل عدم التدخل في هذه العلاقة بالقوة، وسلك بدل ذلك، الأساليب التربوية والتوعوية من أجل تفعيل قيم التسامح واحترام معتقدات الغير، وإلا فإن المعاقبة على هكذا أفعال من شأنها أن تُدخِل المجتمع في علاقات متشنّجة هو في غنى عنها (إذ ستكثر محاولات الايقاع بالناس بسبب سب الدين أو الملة التي تخرج في حالات الغضب)، فظاهرة سب الدين أو الملة أو الله الموجودة في مجتمعنا، تحتاج إلى دراسات علمية ونفسية لفهم أسبابها ودوافعها من أجل علاج أصحابها وتوعيتهم بالأساليب التربوية، ما داموا في الغالب لا يفعلون ذلك متعمّدين فعل الإساءة، وإنما يحدث ذلك بشكل غير مفهوم ومن دون تفكير فيه. وهل الأمر نفسه ينطبق على زعزعة عقيدة مسلم؟ الحال أنه ينبغي تجنّب هذا التعبير الفضفاض والواسع، لأن "الزعزعة" قد تتضمّن العديد من التأويلات من قبيل الأفكار النقدية، وطرح الأسئلة الوجودية، وينبغي ثانيا، الاكتفاء بالتنصيص على عدم جواز فرض أديان أو فسلفات أوعقائد بالقوة على المواطنين، حتى ينفسح المجال للنقاش الحرّ الذي أحيانا قد ينتج عنه تحولٌ إلى هذه الديانة أو تلك أو هذه الفلسفة أو تلك، وأحيانا أخرى قد تتقوى به معتقدات الشخص. كما أن السماح بأن يصدر الحكم بإغلاق المؤسسة التي مورس فيها هذا النشاط، من شأنه أن يخلق مشاكل كبيرة جدا، ويساهم في أضرار اجتماعية. هذه المسودة جرمت الإفطار العلني في رمضان وهو موضوع إجماع داخل المجتمع فلماذا تعارضون ذلك؟ لقد اشتهر عند المسلمين أن مسألة الصيام تخصّ المسلم وربه مصداقا للحديث "الصوم لي وأنا أجزي به"، وحديث "كنا نخرج مع رسول الله، منا الصائم ومنا المفطر، ولا يعيب الصائم منا على المفطر ولا يعب المفطر على الصائم"، كما أن المغاربة تعوّدوا على التسامح في هذا الأمر، سيما في أوقات الحصاد والأعمال الشاقة، وكل بيت مغربي يتضمن العديد من القصص في هذا المجال التي تُروى على سبيل التفكّه والمُزاح، حيث يذكّر بعضهم بعضٍ باليوم الذي أفطر فيه رمضان، قبل أن يواجهه الطرف الآخر بخجل ظاهر ويتبعه باستغفار على ذلك الخطأ، وربما يحمد الله أنه لم تتم معاقبته على تلك "العَملة" وإلاّ كان ضحية "قلّة عقل" عابرة، وكان ذلك ربما تسبب له في مشاكل اجتماعية واقتصادية أو تربوية في حالة إيداعه السجن مع المجرمين والقتلة وتجار المخدرات. لكن الذي حدث أنه مع مجيء الاستعمار، شرّع المستعمر نصا قانونيا يمنع بموجبه على جنوده الإفطار العلني مخافة قتلهم، وهو النص الذي تم الاحتفاظ به في أول تشريع جنائي مغربي بداية الستينيات، والذي لم يتم تفعيله إلا في بعض الحالات السياسية التي كان يُتابَع أصحابها بجنحة الإفطار العلني. المسألة الأخرى المرتبطة بهذا الموضوع هي قضية المجاهرة بالإفطار: هل تعني أن يقوم المرء داخل الأماكن العمومية بالإعلان بأنه ليس صائما، وأنه سيفطر ضدا عنهم؟ أم أنه مجرد الجلوس في مكان عام والأكل في نهار رمضان؟ فإذا كان المشرع يقصد بالمجاهرة السؤال الثاني، فإن الأمر فيه إفراط وتدخل في حياة الإنسان، وفي هذا الصدد تُطرح العديد من الأسئلة التي تحمل في طيّاتها بعض الاشكالات والإجابات: من سيحدد معنى "المعروف إسلامه" هل فقط لأنه ولد في بلد مسلم أم لأنه يحمل اسما إسلاميا؟ ومن سيحدد وجود العذر الشرعي من عدمه؟ وهل سيتم اعتقال الناس والتحقيق معهم حول ما إذا كانوا مسافرين أو لديهم عذر شرعي يمنعهم من الصوم؟ وما الخطر الذي يشكله مواطن يأكل في مطعم أو حديقة أو قطار على الصائمين؟ هل يقوم باستفزازهم أم بإثارة شهيتهم للأكل؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لا يستفزهم الذي يفطر بعذر شرعي، ولماذا لا تثير شهيتهم الأغلبية التي تأكل عندما تكون الأقلية صائمة تطوعيا خارج شهر رمضان، ولماذا لا يثير استفزازهم وشهيتهم آلاف السياح الذين يُعمّرون المطاعم المغربية نهار رمضان ويكون النادل أو الطباخ المغربي الصائم هو من يخدمهم؟ وما الذي ينقص من إيمان الذين يصمون رمضان في دول فيها حرية الصيام مثل: تونس، وتركيا، والهند، وإندونيسيا وتايلاند وغيرها من الدول التي يوجد فيها مسلمون ربما أكثر من المسلمين الذين يعيشون في الدول الإسلامية؟ ولماذا التركيز فقط على الصيام وليس على الصلاة مثلا التي هي عماد الدين حسب القول الديني؟ وما نتيجة إيداع مواطن السجن فقط لأنه فطر أحد رمضانات عُمره؟ هل سيتعوّد على الافطار بقوة، أم سينصلِح حاله في السجن، أم سيُدفع إلى مزيد من الإيمان، أم سيتخرّج مجرما من السجن، أم سيتم إثقال أسرته بمصاريف الزيارة، أم سيتم تعمير السجون بأناس لا يتوفرون على الشخصية الجُرمية ويُترَك المجرمون الذين يشكلون خطرا على اقتصاد وسياسية وأمن المجتمع؟ هذه الأسئلة وغيرها هي ما تدفع إلى الإلحاح على رفع تجريم الإفطار في رمضان، وأن يتم بدل ذلك، معاقبة كل شخص يريد أن يكره الناس على اعتناق ما يَعتنقه، أو يسعى إلى استفزازهم أو السخرية من عباداتهم أو فلسفاتهم الحياتية، إذ لا يمكن مثلا السماح بأن يخرج مواطن إلى الشارع ويدعو الناس إلى إفطار رمضان ويشرع في الأكل أمام أنظارهم عمدا ورغبة منه في السخرية منهم، أما أن يجلس في مطعم، أو يعمر مقهى، أو يأكل في قطار دون أن تصاحب ذلك أي سخرية أو تعمّد إحداث مشاكل، فإن الأمر لا يعدو أن يدخل في إطار الحرية الشخصية التي تجب حمايتها، ورب سائل: وماذا تعني الدولة إسلامية، الواردة في الدستور إذا كانت الدولة ستسمح بحرية الإيمان إتيان طقوس العبادة؟ لكن على صاحب هذا السؤال أن يُدرك قبل طرح سؤاله أن الدولة لا تُسلِم ولا تؤمن لأنها كيّان رمزي لا يؤمن ولا يُلحد بل الذين يفعلون ذلك هم المواطنون بمحض إرادتهم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن إسلامية الدولة في نظر المدافعين عنها تفرض أيضا إجبارية الصلاة والزكاة، وفرض الجزية على غير المسلمين، وقطع يد السارق، والرجم، وتطبيق حد الردة.. أما المعاقبة على إفطار رمضان فتأتي في آخر سلم أولوياتهم وربما لا تأتي.