منذ الانفراج الأخير والكبير في العلاقات المغربية الإسبانية، وإعادة بنائها على أسس شراكة استراتيجية جديدة ومواقف واضحة وحاسمة لصالح الوحدة الترابية للمغرب، بدأ مسار تاريخ جديد يكتب بين البلدين العريقين، والمعول على علاقاتهما الوطيدة والقوية في تمتين جسور التبادل والاستقرار بين ضفتي المتوسط. فمنذ عامين على إعطاء نفس جديد لهذه العلاقات وبضمانات من قيادات البلدين ومؤسساتهما الدستورية ودعم من حكمائهما، والعمل جار على أكثر من صعيد للتمكين للنموذج المغربي الإسباني في إدارة الخلافات والاستثمار في السلام والأمن والاستقرار والتفاهم والتعاون، وتغليب منطق المصالح المشتركة المتبادلة المفيدة للشعبين ولشعوب المنطقة، على ما سواها من خلافات قديمة أو طارئة ستجد حلها حتما في مسار آخر متقدم للاندماج الاقتصادي والتفاهم الديبلوماسي. لقد راهنت العصابة الحاكمة في الجزائر بكل ما أوتيت من قوة على الضغوط الثقيلة التي مارستها على الحكومة الإسبانية لثنيها عن مزيد من الانفتاح على المغرب، وحثها على التراجع عن قرارها التاريخي القاضي بالانتصار لمبادرة الحكم الذاتي لأقاليمنا الجنوبية، وإنهاء مرحلة من التوتر بخصوص الموقف الملتبس والغامض للحكومات الإسبانية من الوحدة الترابية للمملكة المغربية، وتبين فشل رهان العصابة، بعد النجاح الباهر لإسبانيا في اجتياز اختبارات الأزمات المفتعلة معها من قبل العصابة الجزائرية التي ألغت معاهدات صداقة معها وعطلت مصالح شركات ومؤسسات اقتصادية إسبانية، وقطعت إمدادات للبترول، وتدخلت في الشؤون السياسية الداخلية الإسبانية لإسقاط حكومة سانشيز، ومولت حملات إعلامية معادية للتقارب المغربي الإسباني، وتقربت إلى أحزاب المعارضة الإسبانية للتعويل عليها في تغيير الموقف الإسباني من قضية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، ونكأت بخبث شديد جمرات النزاع الخامد حول مدينتي سبتة ومليلية وباقي الثغور المحتلة، واستغلت في أكثر من مناسبة ملفات الهجرة ووقائع تدفق آلاف من المهاجرين السريين من جنوب الصحراء على معبري المدينتين السليبتين وما ترتب عن ذلك من مواجهات دامية ومحاولات توريط المغرب وإسبانيا في تبعات هذا الوضع الذي لم تستبعد التحقيقات وجود أيادي العصابة في اندلاعه باستخدامها لملف الهجرة والمهاجرين على حدودها ورقة لإغراق المنطقة وإشعالها حربا، وبهدف وقف المد الزاحف للتعاون المغربي الإسباني وتعكير أجواء التوافق حول العديد من الملفات ذات البعد الأمني والاجتماعي والاقتصادي بين الرباط ومدريد. تلقت العصابة الجزائرية ضربات قوية لكل مناوراتها اليائسة، ولم تحصد منها إلا مزيدا من تهميشها وعزلها، وتوثيق عرى التفاهم والتعاون بين المغرب وإسبانيا، وحتى الرهان على لعبة المعارضة الإسبانية ضد حكومة بلادها، والتوغل في دواليب الصدامات الانتخابية بين الكتل السياسية الإسبانية، فشلت في تحقيق أهدافها الخبيثة، وطالما نبه الإسبان أغلبية ومعارضة، حكومة وبرلمانا، عصابة الجزائر إلى الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية الإسبانية، بما فيها شأن القرار الإسباني السيادي القاضي بتبني ودعم موقف إيجابي من قضية الصحراء المغربية، وتغليب الحل السياسي في إطار سيادة المغرب ووحدته الترابية. وبعد مضي قرابة سنتين على كل المؤامرات المتلاحقة التي لم تيأس العصابة من نفث سمومها بين إسبانيا والمغرب دولة وحكومة وشعبا أبان أول استطلاع إسباني للرأي منذ الاستئناف الجديد للعلاقات بين البلدين، أجراه معهد إلكانو الملكي عن تطورات في الوعي الشعبي الإسباني بأهمية العلاقات مع المغرب في السياسة الخارجية الإسبانية، إذ حظي المغرب لدى المواطنين الإسبان بمرتبة الأولوية في سياسة بلدهم، مقارنة بالدول الصديقة لإسبانيا والتي يتمتع عدد منها بعلاقات تاريخية واقتصادية وسياسية قوية معها، ومنها الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول أمريكا اللاتينية. الأمر الذي يتوافق ويتناغم مع توجهات الحكومة الإسبانية ومع سياستها الخارجية الجديدة المعززة لروابط الصداقة والشراكة والتحالف الاستراتيجي مع المغرب من أجل مصلحة البلدين، بل من أجل المصالح المشتركة للقارتين الأوروبية والإفريقية، ومن ثمة الحرص على استدامة هذه التوجهات، والتي تتعزز يوميا بانخراط واسع لمؤسسات البلدين في دعمها واستشراف نتائجها ومردوديتها المؤكدة على المديين القريب والبعيد، بل إن الإشارات التي بعثها كل من رئيس الحكومة الإسبانية السيد بيدرو سانشيز، ووزير خارجيته السيد خوسي مانويل ألباريس، سواء في تصريحاتهما الإعلامية أو مداخلاتهما في البرلمان الإسباني، تؤكد أن باقي الدول الأوروبية التي تراقب عن قرب مسار العلاقات المغربية الإسبانية، وتطوراتها ونتائجها الإيجابية، ستحذو إن عاجلا أو آجلا حذوها، بعد أن تتشكل معالمها كنموذج رائد في الشراكة الأوروبية الإفريقية والتعاون شمال جنوب، وستكون التجربة المغربية الإسبانية قاعدة متينة للبناء عليها، في جميع المجالات القانونية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بالإضافة إلى ما تتمتع به هذه التجربة من قدرة فائقة على امتصاص التوترات، وتحييد المخاطر، وتدبير الاختلافات، وإدارة الأزمات. إن نتائج الاستطلاع الجديد للرأي العام الإسباني، التي جاءت منسجمة ومتسقة مع الدينامية التي تعرفها العلاقات المغربية الإسبانية على الصعيد الديبلوماسي، لم تترك للعصابة الحاكمة في الجزائر فرصة الحلم بأن ثمة أملا في رجوع إسبانيا إلى مواقفها السلبية القديمة من قضية وحدتنا الترابية، وأن الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة في إسبانيا ستسفر عن معطيات جديدة تشطب نهائيا "تغريدة" سانشيز خارج السرب الانفصالي "القوي" في إسبانيا… والحال أن كل الإشارات والمعطيات والحقائق تتجه في إسبانيا إلى القطيعة النهائية مع الأطروحة الانفصالية، وإلى الاقتناع بأن العودة إلى الإجراءات الأحادية العدوانية ضد المغرب، أمر مضر بالدرجة الأولى بالمصالح الإسبانية. ويكفي أن حجم التنسيق وتشبيك المصالح بين البلدين، في ظرف وجيز من عودة العلاقات بينهما، قد أعطى ثمارا إيجابية ونتائج فعلية وفي أرض الواقع، استفاد منها الشعبان الجاران، والقادم أفضل. ولا يمكن قطعا بعد هذا الذي تحقق ويَعِدُ بمستقبل زاهر، أن تأتي أحزاب وتكتلات سياسية لأغلبية انتخابية جديدة لتنسفه بمجرد المزاج والتدافعات الانتخابية، وتعرض مصالح بلدها للضرر، فقط إرضاء لعصابة ساقطة أخلاقيا وديبلوماسيا، تسكن قربنا في كهوف التاريخ القديم، وتقتات على الأزمات والحروب والكراهيات، من أجل إلهاء شعبها وتخديره، وصرف أنظار حراكه عن مطلبه المشروع في تقرير مصيره ورحيل العصابة إلى الأبد.