لا يمكن للنموذج التنموي الجديد الذي تنشد البلاد إرساء أسسه الصلبة القادرة على إقامة العدالة الاجتماعية والمجالية، والحد من الفوارق والتفاوتات بين الفئات والجهات، والاستجابة للمطالب والحاجات المتزايدة للمواطنين، وخلق الثروات الوطنية، ومعالجة الاختلالات البنيوية والقطاعية في السياسات العمومية، أن يكون مبدعا وابتكاريا وخلاقا، دون تحرير اللجنة المكلفة بهذا النموذج التنموي من الارتهان بالأفق الضيق للحسابات الإيديولوجية والسياسوية والحزبوية والانتخابوية التي تقزم من ورش إصلاحي استراتيجي كبير وعميق، تبين بعد اقتراح جلالة الملك للاشتغال عليه عند افتتاحه السنة التشريعية في أكتوبر من العام 2017، ودعوته الحكومة والأحزاب السياسية والبرلمان ومختلف المؤسسات المعنية، إلى تقديم اقتراحاتهم في هذا الباب، ضعف هذا المدخل السياسي عن المواكبة الفعلية والجادة والبناءة للرهان التنموي الجديد، بسبب من كوابح واختلالات داخل هذه الإطارات الحكومية والحزبية والمؤسساتية، والتي برزت منذ افتتاح النقاش داخل هذه الأطر حول تصورها للنموذج التنموي الجديد، والتاريخ شاهد على مبلغ التهافت والتردي والنزاع الذي أقحم فيه نقاش النموذج التنموي طيلة عامين من انتظار الصياغة السياسية المتماسكة لتصور الحكومة وأغلبيتها لهذا النموذج، فلم نظفر مما تسرب إلى الإعلام من وثائق أو مداولات واجتماعات حزبية إلا بما يأتي: ورقات إنشائية وخطابية متفرقة لا ترقى لتكون في مستوى متطلبات المرحلة ولا في مستوى الرهانات والتحديات والمشاريع والبرامج الابتكارية القوية والناجعة المنتظرة من نموذج تنموي جديد يروم القطع مع اختلالات النموذج القديم. عقليات سياسية قديمة مهيمنة، لم تستوعب بعد تحولات المرحلة، ولم تجدد خطابها السياسي بما يضمن استقطاب كفاءات ونخب وأطر جديدة تشارك بخبراتها حسب مجالات اختصاصها، في صياغة النسخ الحكومية والحزبية للنموذج التنموي المنتظر والمأمول. نزاعات الأغلبية الحكومية التي أفسدت أجواء التوافق على إعادة النظر في النموذج التنموي القديم، وإعمال المقاربة التشاركية في تدبير التصور الحكومي المنسجم والمندمج والمشترك، ولا حاجة للتذكير بفشل الحكومة في تقديم نسختها الموحدة لهذا التصور، وتكفي الإحالة على تأخرها أولا في إعداد التصور، ثم لما ذُكرت بعد عام من الانتظار، بضرورة التعجيل بتقديم التصور، تمت بلورة نسخة انفرادية على عجل تصدت لها مكونات من الأغلبية الحكومية بالاستنكار والرفض للطريقة أو المنهجية التي دبر بها رئيس الحكومة هذا الاستحقاق، لتدخل هذه الوثيقة في نفق الأخذ والرد والخلاف والنزاع منذ يناير من العام 2019، وبعد تجديد المهلة والفرصة، دون أن تحظى بإجماع الأغلبية الحكومية أو توافقها، أو حتى معرفة مصيرها، هل قدمت فعلا باسم الحكومة، أم باسم أحزاب منها، أم باسم حزب رئيس الحكومة. بعض الأحزاب والهيئات تقدمت بوثيقة عامة لتصورها عن النموذج التنموي الجديد، وعدد آخر منها دخل في سبات وبيات لا يعرف سببه، كما لا يعلم عامة المتتبعين شيئا عن الأطر والنخب والكفاءات الحزبية الشابة والخبيرة التي تمت تعبئتها لصياغة تصورات الأحزاب عن النموذج التنموي الجديد. كان الانتظار سيد الموقف لعامين متتاليين، ومعهما تبين عدم الجاهزية التامة لتحقيق التقائية في مقترحات الهيئات السياسية والحكومية، وانخرط الجميع في تدبير اليومي، وفي الانكفاء على ملفات قطاعية حارقة، وفي إطفاء التوترات الاجتماعية والسياسية التي تندلع هنا وهناك، وفي تبادل الاتهامات والمسؤوليات، فيما مشروع استراتيجي وحيوي وكبير من نوع النموذج التنموي الجديد ينتظر الإرساء والتفعيل بعيدا عن الحسابات السياسوية الضيقة التي عجزت الحكومة والأحزاب السياسية عن الحسم فيها لصالح رهان وطني كبير، بل ازدادت حدة المزايدات عن حد التنافسية النبيلة إلى الصدام والعرقلة المتبادلين، ورهْن مستقبل البلاد بهذا الحضيض. فكان لابد من تنفيس العقدة الحكومية بتجديد دمائها إثر التدخل الملكي في يوليوز الماضي، بالدعوة إلى تعديل حكومي وتجديد مناصب المسؤولية بكفاءات وطنية على أساس الخبرة والاستحقاق، تكون في مستوى المرحلة الجديدة التي تستعجل إرساء النموذج التنموي الجديد والمنتظر، فجرى التعديل الحكومي في أكتوبر الماضي، وبعده في نونبر عين جلالته رئيس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، وفي دجنبر الجاري عين جلالته أعضاء اللجنة وفق البروفايلات أو الملامح التي حددها الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش لهذا العام، والمتمثلة في الخبرة والكفاءة وتنوع المشارب والاختصاصات المهنية والأكاديمية، لتتوالى بعد ذلك اجتماعاتها، خلال الأسبوعين الأولين من تعيينها، من أجل التوافق على خطة العمل والنظر في المقترحات والتصورات المحالة عليها، والعمل وفق التوجيهات الملكية بتبني مقاربة تشاركية ومندمجة تسهم بالفعل في ضمان التعبئة والانخراط الواسع لجميع الفعاليات والهيئات إلى حين تقديم التصور المتكامل عن النموذج التنموي الوطني الجديد إلى جلالة الملك بحلول الصيف المقبل. بهذا التدخل الملكي الحاسم الذي بدأت أولى ثماره تظهر في نشاط اللجنة وشروعها في إنجاز مهمتها بالقيام باستشارات، يكون قطار إرساء النموذج التنموي الجديد قد وضع على سكته الصحيحة، وتم سحب هذا الورش الكبير من دائرة البلوكاج والعرقلة والتعثر والانحباس، إلى أفق أرحب للعمل والإنتاج والابتكار، خصوصا وأن الأعضاء المعينين في اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي من خيرة الأطر الخبيرة التي تتمتع بمصداقية في مجالات تخصصها ذي الصلة بالمشاريع التنموية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على الصعيدين الوطني والدولي. كان بإمكان الذين أضاعوا سنتين في الانتظار والعجز، أن يتواروا ويصمتوا، أو على الأقل أن يعطوا أنفسهم فرصة ثانية للتعبير عن انخراطهم وتعبئتهم لاستدراك ما فات منهم، وإصلاح الاختلالات في تدبيرهم وتدخلهم، غير أن عددا منهم اختار أن يقذف العاملين، فلا هو عمل ولا هو ترك من يعمل ليمضي بقطار المشاريع والمبادرات في اتجاهه الصحيح، حيث ارتفعت أصوات موتورة لإفساد هذه اللحظة التاريخية، بما تتقنه من فنون التشكيك والكذب، تارة بقذف أعضاء اللجنة بتهم رخيصة وخسيسة، وصلت حد التفتيش في عقائدهم وضمائرهم، وتأليب المواطنين عليهم باستغلال دين الناس وركوب موجة التكفير، وتارة أخرى باجترار أسطوانة المدخل السياسي أولا، وتارة أخرى بادعاء عدم إعمال المقاربة التشاركية وعدم الإشراك ووجود إقصاء، وهكذا دون أن يبدر من أحد من هؤلاء القافزين على الحقائق رغبة حقيقية للمساهمة في تيسير عمل اللجنة وتقديم رأي أو بسط خبرة أو تذليل صعوبة، أو توفير ظروف وشروط آمنة وهادئة لمباشرة اللجنة عملها، ودعم الثقة في الخبرة والكفاءة الوطنية. فلو كان خطباء الفتنة صادقون في بذل النصيحة، لكانوا أنصح لأنفسهم حينما صمتوا دهرا وتغافلوا أعواما وفشلوا تدبيرا، ولما نطقوا كفرا وجحودا وتحريضا من جديد على كل مبادرة صادقة ونافعة، مثبتين أنهم لا يتحركون إلا من أجل مصالحهم الضيقة، ولا تحركهم إلا نزعاتهم القديمة والمستحكمة في الهيمنة والسيطرة والتنمر. نتمنى للجنة الخاصة بالنموذج التنموي كامل التوفيق والسداد في مهامها الوطنية النبيلة التي تسمو على الحسابات السياسوية والإيديولوجية الضيقة، وندعو جميع القوى الحية بالبلاد إلى توفير كل الظروف السليمة والصحية لإنجاح خطواتها إلى المستقبل، والتعبئة والانخراط في الاستشارات والمشاورات التي تفتحها، ولنجعل هذا المدخل الأخلاقي المواطِن أولوية في مواجهتنا لتيار التيئيس والتبخيس والتشكيك الخبيث، إذ لا يمكن للمبادرات الجديدة الخيرة والنبيلة أن تشتغل تحت القصف والضغط والشغب عليها والتحرش بها والاستفزاز المتواصل من قبل ذوي النيات السيئة والأنانيات المتضخمة والمفرطة في عبادة ذواتها، والاستعلاء على العباد.