لم تكن مواقف المعارضة لتخرج عما تم تأكيده طيلة الولاية التشريعية الحالية والتي هي مقربة من نهايتها بعد بضعة أشهر من اليوم، من أن الحصيلة التشريعية لا تقف عند إبراز كم وعدد النصوص القانونية والتشريعية التي تمت المصادقة عليها، بل تتعدى إلى إشكالية الكيف والنوعية والجودة، التي لا زالت تمثل إشكالا حقيقيا في التعاطي من التشريع داخل البرلمان. من هنا كان من المنطقي جدا أن تذهب فرق المعارضة داخل البرلمان إلى اعتبار الحصيلة هزيلة من حيث الجانب الكيفي والنوعي لا من حيث الجانب الكمي، وأيضا من جانب جودة النصوص التشريعية والقانونية، ارتباطا مع غياب التدبير الجيد للزمن التشريعي، بسبب ما عرفته هذه الدورة من إشكالات اعترت الممارسة البرلمانية خلال الدورات السابقة والدورة الخريفية المنتهية. فالرهان على كم القوانين والتشريعات التي صودق عليها في الغرفتين، مجلس النواب ب 61 نصا تشريعيا ومجلس المستشارين بحوالي 30 مشروع قانون، لا يمنع من القول إن هذه الدورة لم تختلف عن سابقاتها بحسب المراقبين السياسيين من حيث : التأخر الملحوظ في عرض مشاريع القوانين خاصة التنظيمية منها على الغرفتين، رغم محاولات الإسراع من وتيرة إخراج القوانين التنظيمية إلى حيز الوجود. الالتفاف الممنهج على مقترحات القوانين التي تتقدم بها الفرق البرلمانية خاصة فرق المعارضة. الخلافات والسجالات بين رئاسة الحكومة والمعارضة، التي أثرت سلبا على العمل التشريعي والرقابي. انحدار مستوى الخطاب السياسي من طرف الحكومة خاصة من لدن رئيسها في مواجهة نقد وانتقادات المعارضة، مما عطل السير العادي للجلسات، مما خلق مناخا من الاحتجاج على التحكم الحكومي في المؤسسة البرلمانية. هيمنة الحكومة على الفعل التشريعي من خلال عدد مشاريع القوانين المصادق عليها مع تهميش ممنهج لدور البرلمان، خصوصا المعارضة وذلك بفعل استثمارها لآليات دستورية ولعامل الأغلبية التي تساندها. النقص في الأداء البرلماني الذي يعود أساسا إلى "الاختلالات التي تعرفها جلسة الأسئلة الشهرية الموجهة لرئيس الحكومة، وما هو مرتبط بطبيعة القضايا المطروحة وكيفيات التفاعل معها، مما جعل هذه الدورة الخريفية تجتر معها نفس اختلالات الدورات السابقة. وتظل قضية هيمنة الحكومة على التشريع وتحكمها في مداخله ومخارجه، واستقوائها بأغلبيتها لتمرير ما تشاء من مشاريع قوانين وقوانين تنظيمية وتأخير أو تأجيل أخرى لحسابات سياسية وإيديولوجية وحزبية، والتي أثارت ولا تزال ردود فعل قوية من طرف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين الاجتماعيين والحقوقيين ومنظمات المجتمع المدني، قضية محورية في النقاش السياسي بين ممثلي الأمة في البرلمان والحكومة، ما دام أن دستور 2011 قد حسم في هذه الإشكالية بالتنصيص على أن البرلمان يظل المصدر الوحيد للتشريع، حسب الفصل 70 من الدستور، ناهيك عن أن الفصل 71 يتطرق لمجال القانون أو الاختصاص الحصري للبرلمان الذي يمكن فيه سن القانون و الموافقة عليه. إن الإشكالية المطروحة اليوم والتي نرى أنها جديرة بالدراسة والمعالجة الرصينة، هي الازدواجية التي يعرفها التشريع في بلادنا، بين الحكومة والبرلمان، وهي الإشكالية التي تثير نقاشا قويا عندما يتبين أن الحكومة تعمد إلى آليات دستورية تصب في صالحها لتكرس وضع الهيمنة والتحكم ولا تترك للبرلمان إلا هامشا ضيقا في عملية التشريع. الواقع أن منح الحق البرلمان والحكومة معا سلطة التشريع، من خلال مشروع قانون ( الحكومة) ومقترح قانون (البرلمان) انطلاقا من الفصل 78 من دستور 2011 ، فضلا عن أن المشرع الدستوري قد خص الحكومة بالتحكم في جدول عمل مجلسي البرلمان، يجعل من الصعوبة بمكان لكي يقوم البرلمان بدوره الحقيقي في التشريع، ويتحول بذلك إلى غرفة استماع وتسجيل ومصادقة على تشريعات الحكومة دون الأخذ بعين الاعتبار مقترحات الفرق البرلمانية التي من المفروض أن تكون لديها الأولوية في التشريع، حيث إن مشاريع القوانين المودعة من قبل الحكومة في أحد مجلسي البرلمان تحظى بأولوية إدراجها في جدول عمل البرلمان على حساب مقترحات القوانين المعدة من قبل مجلسي النواب والمستشارين أو الفرق البرلمانية التي تبقى حبيسة أرشيف المجلسين. فمن غير المنطقي أن تظل هذه الوضعية قائمة، وأن يستمر هذا الخلل رغم أن البرلمان له صفة المشرع، حيث يكتفي في الغالب بالمصادقة على ما تقدمه الحكومة، ولا ينتج إنتاجا تشريعيا ينسب لنائب أو فريق برلماني. فالكم المعتبر لمقترحات القوانين التي تم تقديمه على مدى السنوات الماضية وهذه السنة والنسبة الضئيلة من المقترحات المصادق عليها (المجلسين) خاصة تلك الواردة من لدن المعارضة، يؤكد إلى حد كبير حجم الخلل في العملية التشريعية وكيف أن الحكومة تتحمل المسؤولية عن هذا الخلل بسبب هيمنتها غير المبررة على التشريع، وعدم تمكين البرلمان من ممارسة وظيفته الأساسية في الجانب التشريعي.