كعادتها دائما، وبعد صمت مستغرب عن التجاوب مع الدعوة الملكية لها للتفكير في إقامة آلية مشتركة للحوار المباشر والتشاور الثنائي والتعاون الإقليمي، بهدف تجاوز الجمود في العلاقات بين المغرب والجزائر، دون الحاجة لطرف ثالث للتدخل والوساطة، آثرت الجزائر اللجوء إلى رد غير مباشر، يلتف على نبل الدعوة الملكية، وصدق اليد المغربية الممدودة والمفتوحة إلى الأشقاء بالجزائر، وذلك بتحريك مبادرة إحياء آلية الاتحاد المغاربي، وبعث النقاش بين دوله حول إمكانات عقد اجتماع مجلس وزراء خارجية الاتحاد في أفق عقد قمة مغاربية في أقرب وقت، لمواجهة التحديات الإقليمية. ولا يخفى ما يحمله هذا الرد الجزائري من رسائل سلبية تشير إلى تعنتات وتهربات وتلبيسات، وإن ظهرت بصورة دعوة بريئة إلى إحياء التضامن المغاربي وتحريك مؤسسات اتحاد مجمد إلى أجل غير معلوم، تعلم الجزائر قبل غيرها أنه ضحية النزاع الثنائي المغربي الجزائري، وأن حل هذا النزاع هو وحده الكفيل ببعث الحياة في هذا التكتل التاريخي والإقليمي، وإعطاء إشارات انطلاق قاطرته، التي توقفت عند الحدود الجزائرية المغربية. وهذا ما يفسر أصالة ومصداقية وموضوعية وجرأة الدعوة المغربية إلى فتح صفحة جديدة من العلاقات الثنائية بين المغرب والجزائر، تطرح فيها كل المشاكل العالقة بين البلدين على بساط المفاوضات والحوار والتشاور، وبآليات مفتوحة تكسر الحواجز النفسية والسياسية التي تحول دون تقريب وجهات النظر بين البلدين في ما يتهددهما من مخاطر، وتحول بين شعبيهما والاستفادة من فرص التنمية ومن خيراتهما وإمكاناتهما الطبيعية والجغرافية وكفاءاتهما البشرية. ماذا سيجدي اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد المغاربي، والنزاع المغربي الجزائري قد تشعب وتطاول ونقض بنود تأسيس هذا التكتل، وتراجع عن بشائر التأسيس وأحلام جيل الحرية والاستقلال، بعد أن اختزلت الجزائر كل دعواتها وجهودها في دعم الانفصال، وجندت كل أجنداتها للترويج للأطروحة الانفصالية، وحشدت كل ثرواتها وجهودها الديبلوماسية على الصعيدين الإفريقي والدولي لمعاكسة المغرب ومناهضة وحدته الترابية، وترصده في المحافل الدولية، والتحريض ضد استقراره وأمنه. لا شيء يمكن لاجتماع طارئ بين وزراء خارجية البلدان الخمسة للاتحاد المغاربي، أن يتباحثه والجبهة الجزائرية المغربية لا تكاد تهدأ بفعل زرع كيان انفصالي تسلحه الجزائر في العلن، ويوجه أسلحته وتهديداته إلى المغرب، صباح مساء، وتتحكم الجزائر في كل حركاته وسكناته ليظل خنجرا مغروسا في ظهر المغرب. ليس للمغرب أي مشكل عويص أو خلاف عميق مع دول الاتحاد المغاربي، ولا مع مؤسسات هذا التكتل، بل هو أشد من الجزائر تمسكا بهذا الاتحاد، وكانت أرض المغرب مهد تأسيسه وإنشائه، فلماذا تحشر الجزائر الاتحاد المغاربي في سياق مبادرة مغربية موجهة إلى الجزائر لربط الاتصال وأواصر التعاون الثنائي المباشر على تبديد جميع الخلافات العالقة بين البلدين، وبمنظور مفتوح يأخذ بعين الاعتبار علاقات الجوار، ويأخذ في الآن نفسه موضوع الخلاف الجزائري المغربي، الذي يشكل أبرز عقبات وعراقيل استئناف الاتحاد المغاربي مسيرته الوحدوية والتضامنية والتنموية. إن التطلع إلى قمة مغربية جزائرية، لتسوية خلافات ونزاعات مدمرة للبلدين والشعبين الشقيقين، هو مقدمة لفتح الطريق أمام قمة مغاربية تستأنف فيها مؤسسات الاتحاد المغاربي مهمتها التاريخية والحضارية، ولا يمكن الذهاب إلى اجتماع أو قمة مغاربية والنزاع الجزائري المغربي يراوح مكانه، إن لم نقل إنه بدأ في الاتجاه نحو منعطف أشد ضراوة بتأجيج الجزائر للسلوكات العدوانية لصنيعتها الانفصالية على حدود أقاليمنا الجنوبية، في مناوراتها بنقل معداتها العسكرية إلى المنطقة العازلة المشمولة بنزع السلاح، وتهديد المنطقة بحرب ضارية، ظل المغرب يتفاداها بحكمته ورباطة جأشه واحتكامه إلى المواثيق الدولية، وإلى المعاهدات ذات الصلة، ولجوئه إلى المنتظم الأممي وإلى مجلس الأمن الراعيين لمفاوضات الحل السياسي، من أجل كف أيدي المعتدين وردعهم عن مواصلة استفزاز المنطقة بهذه المناورات المكشوفة. لا يمكن للمغرب أن يقفز على هذه المناورات والتهديدات التي ما فتئت تتسع رقعتها، دون أن يبادر ولمرات عديدة إلى تحميل الجزائر كامل المسؤولية عن التشويش على مسلسل التسوية السياسية والشاملة لنزاع عمَّر أكثر مما خططت له أيادي الغدر في فترة الحرب الباردة التي انتهت كل مسبباتها وشروطها التاريخية والظرفية. إن أي نداء إلى اجتماع مستعجل لمجلس وزراء خارجية دول الاتحاد المغاربي، في سياق مبادرة مغربية نبيلة موجهة إلى الأشقاء الجزائريين للتداول بشأن سبل إحداث آليات مشتركة للحوار والتشاور والتداول المفتوح والأخوي وبدون شروط مسبقة أو خلفيات ضيقة، لا يمكنه أن يفهم إلا على أنه محاولة جديدة من الجزائر لطمس المبادرة المغربية، وإغراقها في مبادرة أخرى وملف آخر لا علاقة لهما مباشرة بمضمون الدعوة المغربية وبالعلاقات الثنائية بين المغرب والجزائر، اللهم إلا إن كانت الجزائر تريد أن تبعث من بعيد رسالة مشفرة إلى الشعبين المغربي والجزائري مفادها أنه لا علاقة لها مع المغرب، وليس لديها أي نداء أو يد ممدودة إليه، وأن ما يجمعها من علاقات ثنائية وعلاقات حسن الجوار مع المغرب، لا يمكنه أن يناقش ثنائيا إلا عبر وساطات إقليمية أو دولية وعبر آليات ومؤسسات دول الاتحاد المغاربي، والحال أن الميثاق التأسيسي لهذا التجمع الإقليمي، ينص في بند من أهم بنوده المتعلقة بالوحدة الترابية للدول المغاربية، على منع أي نشاط يهدد الوحدة الترابية للدول الخمس العضو في الاتحاد، وليس في هذا الاتحاد دولة أخرى سادسة أو سابعة أو كيان وهمي يهمه هذا المطلب، وتنطبق عليه صفة الدولة والتراب الوطني. بل إن المغرب هو المعني أولا وأخيرا بالعدوان على ترابه الوطني وحدوده، التي من المفروض أن تكون الجزائر التي وقعت على الميثاق التأسيسي لدول الاتحاد المغاربي، وبحكم جوارها للمغرب، أول الممتنعين عن السماح في ترابها لأي نشاط مسلح موجه ضد المغرب، وهو ما لم تفعله بإيوائها للعصابات المدججة بالأسلحة الجزائرية والدعم الجزائري لإطالة نزاع مفتعل، يعلم الجميع بما في ذلك دول الاتحاد المغاربي، أنه نزاع مغربي جزائري صرف، بشعارات تقرير المصير، التي لا تمت بأي صلة إلى ميثاق هذا التجمع وإلى مبادئه وأهدافه وأرواح شهداء حركات التحرير والمقاومة، الذين ضحوا من أجل الوحدة والتحرير، لا الانفصال والتجزيئ والتقسيم والعدوان. الكل، دولا ومؤسسات وشعوبا وأفرادا، يؤمنون أن التنسيق بين المغرب والجزائر، إن كتب له أن ينجح في تجاوز الخلافات العميقة الموروثة من الفترة الاستعمارية، ومن فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، بإمكانه وحده أن يوفر على المنطقة وعلى الاتحاد المغاربي وعلى المجتمع الدولي، سنوات من الدماء والجمود والغموض وتوقف قاطرة الوحدة والتنمية، وسيعيد الدفء والحركة البناءة والفاعلة والإيجابية إلى مؤسسات التضامن والوحدة بين دول المنطقة. غير هذا من القفزات في الهواء بالاستنجاد بآليات الاتحاد المغاربي المعطلة أصلا بفعل النزاع الجزائري المغربي غير المحسوم، لن يكون إلا اتجاها ضد المنطق وضد التاريخ، ورغبة دفينة في إغراق هذا التجمع الإقليمي في سبات جديد، يؤكده أكثر من 33 اجتماعا وزاريا لمجلس وزراء خارجية دول الاتحاد المغاربي خلال سنوات خلت، دون تخطي هذه الاجتماعات عتبات البداية والانطلاق، التي يقف النزاع الجزائري المغربي حجر عثرة في طريقها، وحصاة مؤلمة في حذائها. فهل الجزائر جادة بالفعل في طرحها لملف استئناف اجتماعات مؤسسات الاتحاد المغاربي، للتباحث في مستقبل ومستجدات التعاون بين بلدان ودول هذا الاتحاد، في الوقت الذي لم تحرك فيه ساكنا للرد على الدعوة الملكية واليد المغربية القريبة منها والممدودة إليها لفتح صفحة جديدة من الحوار والمشاورات الثنائية، وهل قناعتها بالوحدة المغاربية هي بالفعل راسخة كما تدعي، وهي تدير ظهرها للمغرب، وتضع صنيعتها الانفصالية في وجهه للتخاطب معه، أو للتخاطر بالنيابة عنها. إن عدم الرد على الطلب المغربي إلى غاية اليوم، وتهريب مناقشة القضايا الثنائية بين البلدين، إلى جهة ووجهة أخرى، قبل أن يكون عملا غير ديبلوماسي في الرَّد على بلد جارٍ، هو سلوك يفتقد إلى الأخلاق واللباقة السياسية، ورد فعل مجانب لدعاوى “القناعات الراسخة ” الجزائرية بضرورة استئناف بناء الصرح المغاربي وبعث الآمال في نفوس شعوبه ومؤسساته. أي رسوخ وأية آمال وأي صرح يطلب بناؤه؟ والقناعة الحقيقية هي تسفيه الآمال ورد اليد الممدودة وتخريب الصرح من أساسه، فإن كانت الجزائر تريد فقط تسويق صورة مغلوطة عن قناعتها الفعلية والحقيقية، لشعوب المنطقة بهذه الدعوة الخطابية المستعجلة والمرتجلة وخارج سياقها، بهدف إخلاء مسؤوليتها عن جمود الاتحاد المغاربي، فإن المغرب حريص على سمعة هذا الاتحاد ونبل رسالته، وحريص على أن لا يكون مجرد شعار ودثار للتلاعب بالعقول، وعلى ألا يكون مشجبا لتعليق الأوزار والأخطاء، التي يجب أن تحل في إطارها الثنائي التي علقت به. إن مناهضة الوحدة الترابية المغربية، هي ثابت من ثوابت السياسة الداخلية والخارجية الجزائرية، وفي انتظار أن تتحرك الجزائر في اتجاه التخلي عن هذا الثابت، ليس للمغرب ما يمكنه أن يقدمه للأشقاء الجزائريين إلا اليد الممدودة للتعاون من أجل التخفف من هذا الثابت الذي يسمم العلاقات بين البلدين، في أفق حل سياسي دائم وشامل يرعى المنتظم الأممي مسلسل بناء الثقة بين أطراف النزاع فيه، وعلى رأسها الجزائر، المطالَبة في سياق صحوتها المغاربية، وقناعاتها الراسخة بالصرح المغاربي والوحدة المغاربية، بأن تبدي ليونة ومراجعة في “ثابت الانفصال”، حتى يتوافق مع “قناعة الوحدة”، وأن تصون أفعال عقلائها عن عبث الردود الانفعالية والمجانية، وعن منطق لعبة تسديد الضربات وتسجيل الإصابات.