نتذكر جيدا كيف أن ردود الفعل التي تلت اعلان الحكومة عن مسودة مشروع قانون الجهوية , كانت في مجملها متحفظة وغير راضية على المسودة التي قدمتها وزارة الداخلية للاحزاب السياسية والفرق البرلمانية . بل ان ا لاحزاب الرئيسية في المعارضة لم تتردد في توجيه انتقاداتها للمشروع , بكيفية علنية , وعبر الصحافة وفي اللقاءات والتجمعات . ومن هذه الانتقادات تلك التي اعتبرت بأن المسودة التي طرحتها الحكومة انضافت الى سلسلة اخفاقاتها السياسية والاقتصادية , وان نقاش الجهوية لا يمكن ان يبقى رهينا بالمسودة التي عرضتها الحكومة , وانه من الضروري اشراك المجتمع المدني في بلورة مضامينها . وفي ندوة صحفية , عقدها خلال شهر يونيو الماضي , نبه الاتحاد الدستوري الى مجموعة من ملاحظاته وانتقاداته , وإلى أنه سبق ان تقدم بمذكرة في الموضوع الا انه فوجيء بأن اقتراحاته لم تؤخذ بعين الاعتبار . وفي هذه الايام , ومع اقترابنا من استحقاقات السنة المقبلة , اخذ موضوع الجهوية المتقدمة كامل انيته في جدول الاعمال وفي قائمة الاهتمامات . وما من شك ان تقدم ملف الجهوية على هذا النحو هو امر مفهوم وله كل المبررات في ذلك . ولعل من ابرزها هو ان هندسة النموذج المغربي في البناء الديمقراطي جعل من الجهوية المتقدمة دعامة اساسية من دعائم بنيان هذا النموذج ومعطى من المعطيات التي تميزه . هذه المكانة من الطبيعي جدا ان تدفع بالعديد من الفعاليات والاوساط الاقتصادية والثقافية الى التعبير عن هواجسها وكل ما لديها من تحفظات ومخاوف , وكذا عن رؤيتها وتطلعاتها لما ينبغي ان يتحقق مع الجهوية في مختلف المجالات . وهذا ما ظهر في مجموعة من المواقف المعبر عنها ايضا بشأن الانسجام والتوازن بشان مشروع التقسيم الجهوي الذي اثار هو بدوره , ردود فعل واسعة ماتزال تتفاعل في الوسط السياسي والتمثيلي , التي تتحرك من اجل اعادة نظر تمكن من تحقيق ( جهوية منصفة ) . واذا كان من استنتاج من كل هذه التفاعلات والاهتمامات , وحتى الهواجس المخيفة , من استنتاج , فهو ان البلاد في حاجة الى اكثر ما يكون من الحكمة , ومن التبصر والمسؤولية , حتى تضمن شروط النجاح اللازمة لصياغة الاليات القانونية المناسبة والكفيلة بتوفير النجاعة والفعالية والتوازن والتضامن للجهوية المنشودة . وليس هناك من طريق للنجاح في ذلك غير سلوك منهجية الانفتاح والتشاور والتشارك , سيما وان مشروعا كمشروع الجهوية لا يحتمل الاخطاء والحسابات الضيقة , وان القاعدة التي ينبغي ان تحكم اي تصرف او موقف بهذا الخصوص , ينبغي ان تكون هي قاعدة الروح الوطنية الصادقة وخدمة مصلحة الوطن والمواطنين في كل ربوعه وجهاته . والاكيد ان المغرب له ما يكفي من المرجعية للمضي في هذا الاتجاه , ويكفي الرجوع في الخطاب الملكي الاخير , بمناسبة الذكرى الذكرى 39 للمسيرة الخضراء , الذي جاء فيه : (( الجهوية التي نريدها هي استثمار لهذا الغنى , والتنوع البشري والطبيعي , وترسيخ لهذا التمازج والتضامن والتكامل بين ابناء الوطن الواحد , وبين جميع مناطقه . فالمغرب الموحد للجهات لا يعني ابدا التعصب القبلي , ولن يكون عاملا للتفرقة والانفصال , لانه امر ممنوع , سواء في الدستور القديم او الجديد للمملكة )). التوجه على هذا المستوى واضح . اما من جانب الانجاز وتنزيل المقتضيات الدستورية , فقد نكون بالفعل امام تأخر او ارتباك في التدبير الحكومي , وهذا ما يفرض الوعي بدقة الظرف وبما هو مطلوب من الحكومة في مجال التعامل مع هذا الملف الحيوي والجوهري لاستكمال تحقيق المشاريع الاصلاحية الكبرى وتعزيز وترسيخ المكتسبات الديمقراطية بما يساعد على تحقيق العدالة والتقليص من الفوارق الاجتماعية والمجالية . وتأسيسا على ما سبق , وبالنسبة للتقطيع وضمان التوازن والانسجام , يبقى من الضروري الاستماع الى الاصوات المنادية إلى الاسراع بالتشاور وبفتح نقاش حقيقي وواسع مع كل الفرقاء والجهات المعنية , وذلك للبحث في المتعين القيام به سواء على مستوى العدد الذي تقلص من 16 الى 12 جهة , او البحث في الملاحظات والاقتراحات المطروحة . وعموما , وسواء بالنسبة للتقسيم ولعدد او بالنسبة لمسودة القانون التنظيمي , فإن الامر يتعلق بملف استراتيجي يتطلب ان تكون هناك عقلية تؤمن بالحاجة الى الجهوية وبما يمكن ان يتحقق عبرها من اصلاحات وتحرير للطاقات وخلق روافد جديدة للتنمية . وبتعبير آخر فإن التنظيم الجهوي هو خيار وقناعة سياسية . وقد لا تكون هذه القناعة متوفرة لدى الحكومة , لكن ليس من حق هذه الاخيرة تقزيم منطوق الدستور وأحكامه التي تجعل من الجهة مؤسسة دستورية آوآلية من آليات النظام السياسي , تساهم في تفعيل السياسة العامة للدولة وفي اعداد السياسات الترابية .