هذه الثورة الجبارة المحتدمة في مصر، وقبلها ثورة الشعب التونسي التي أسقطت النظام، وما سيعقبهما من انتفاضات وثورات. من المتوقع أن تأتي على جميع الأنظمة العربية المستبدة والفاسدة، فضلا عن المظاهرات التي خرجت من مختلف أرجاء الوطن العربي والعالم لدعم الثورة المصرية المشتعلة، بما فيها التظاهرة الأخيرة التي حدثت في بغداد، كل هذا يثير في نفسي حشدا من الذكريات والحنين، ويدفعني إلى المشاركة فيها ولو عن بُعد. فقد صرت أهتف، بل أعيش، مع متظاهري ساحة التحرير في القاهرة حين أتذكر مشاركتي العنيدة، في وثبة كانون الثاني (يناير) العراقية الجبارة (1948)، التي أسقطنا بها معاهدة بورت سموث ومعها وزارة صالح جبر. (انظر مقالتي: 'في وثبة كانون الكبرى، عام 1948: ذكريات ومفارقات مُلهِمَة ومؤلِمة'، 'القدس العربي' في 27/1/2010 ). أليس من الصدف الغريبة أن تحدث هذه الوثبات الشعبية التلقائية في هذا الشهر من مطلع السنة الميلادية، وبينها من السنين 63عاما ؟ إذ استمرت وثبة العراق من 4 إلى 27 منه، وخلال هذه الفترة استعرت وثبة / ثورة تونس الجبارة فهرب رئيس الجمهورية، ثم بدأت ثورة مصر الكبرى في 25 كانون الثاني (يناير). وبهذه المناسبة أيضا، تذكرت قصيدة الجواهري 'إلى الشعب المصري': في أوائل العام 1951 ، زار الجواهري مصر، بدعوة خاصة من عميد الأدب العربي ووزير المعارف المصري آنذاك، الدكتور طه حسين، وكانت العلاقة بين الرجلين قد ترسخت منذ حضورهما مؤتمر المثقفين العرب. وقبل ذلك في مهرجان المعري في دمشق عندما صدح الجواهري ببيته الشهير: لثورةِ الفكر ِ تاريخ ٌ يُحدِّثُنا بأنَّ ألفَ مسيحٍ دونها صُلِبا فهتف َ طه حسين مستحسنا ًمستزيدا، مُهيبا بأبي فرات أن يُعيدَ ويعيد، وطه حسين يردد: ' بألفِ ألفِ مسيحٍ دونها صُلبا!' ثم يتقدم نحوه معانقاً ومناديا به خليفة ً للمتنبي العظيم. وهذه مقتطفات من القصيدة التي ألقاها شاعر العراق الأول محمد مهدي الجواهري في الحفل الذي أقامه الدكتور طه حسين لوفود الدول العربية المشاركة في 'المؤتمر الثقافي العربي'، الذي نظمته الجامعة العربية في القاهرة في شباط (فبراير)1951. وكان الشاعر قد تلقى دعوة خاصة من طه حسين لحضور المؤتمر ونزل ضيفا ً مكرما ً على وزارة المعارف. (وقد أكدت بعض الأبيات المهمة والتي تنطبق على وضع مصر الحالي، بتسويدها) يا مصر ُ تستبقُ الدهورُ وتعثُرُ والنيلُ يزخرُ والمِسلّة ُ تُزهرُ وبَنوك ِ والتاريخُ في قصبيهِما يتسابقان ِ فيُصهرون ويُصهرُ هذا الصعيدُ مشتْ عليه مواكب ٌ للدهر ِ مثقَلة ُ الخُطى تتبخترُ في كل ِ مُطّرح ٍ وكل ِ ثنية ٍ حجر ٌ بمجد ِ العاملين مُعطَّرُ يهزا من الأجيال في خطراتها 'الكرْنكُ' الثاوي بها و 'الأقصُر'ُ مشت القرونُ متمِّمات ٍ، سابقٌ منها يُحدِّ ثُ لاحقا ً ويُخَبِّرُ يَصلُ الحضارة بالحضارة ما بنى فيكِ المُعِزّ ُ وما دحى الاسكندرُ وتناثَر ُ الجمراتِ حولَك، نابغ ٌ يقضي ، وآخرُ عبقريّ ٌ يظهرُ ووسِعت ِ أشتات الفنون ِ كأنها فلكٌ يدور ُ وأنت انت ِ المحورُ ويقول : يا مصرُ مصرَ الشعب ِ، لا غاياتُه تَفنى، ولا خطوَاتُه تتقهقرُ يا مصرُ مصرَ الأكثرينَ، ولم يزلْ في الشرق يرضخ ُ للأقلِّ الأكثرُ وهُنا، وثمة، لا يزال ُ مُنَعّم ٌ أشِرٌ بنِعمة ِ خالقيه ِ يَكْفر ُ هذا السوادُ أعزُّ ما ضمّتْ يدٌ للطارئات ِ، وخيرُ ما يُستذخَرُ مُدّيه بالعيش الرخيِّ فلم يكنْ ليصونَ حُكما، جائعا ً يتضوَّرُ يا مصرُ ليس بمنقذ ٍ أوطانَه حَرجُ الفؤاد ِ، ولا عديمٌ معسرُ يا مصرُ والدنيا يَعِنُّ مخاضُها والأمرُ يُفجِئ ُ، والفُجاءة ُ تَغدُر وخُطى الشعوب ِ سريعة ٌ، وأمامَها دنيا بما تبني الشعوب ُ تُعمَّرُ وتعبيرا ًعن تلاحم الشعب العربي في العراق مع الشعب العربي في مصر، يقول: يا مصرُ إنّ الرافدين لجِذوة ٌ لو أن ماء ً جذوة ٌ تتسعر ُ إنّا إذا أنَّ الجريحُ بأرضكم ناغاه مجروح ٌ يئِنّ ُ ويزفرُ وإذا استقى نَخبَ الجهاد ِ شهيدُكم فله هناك مهللٌ ومكبرُ وإذا تفجَّرت العروقُ كريمةً سالتْ عروق ٌ جمَّة تتفجرُ وتأكيدا ً لما نتشارك فيه (مصر والعراق) من محنة كبرى، تتجلى في سيطرة الاستعمار سابقا والمستبد الظالم فيما بعد، يقول الجواهري: يا مصرُ مصر َ الأكثرين َ تحية ٌ من جُرحيَ الدامي أعفّ ُ وأطهرُ إنّا وأنتم ْ في خِضَمّ ٍ واحد ٍ موجُ المصائبِ حولَنا يتكسرُ ولنا غريمٌ في السياسة ِ مارقٌ مَذِقٌ، يَكيلُ لنا الوعودَ ويغدرُ يستاق كلَّ طريدة ٍ ويُبيحها ويجيء ُ كل َّ جريرة ٍ ويُبرّرُ هو ذلك الدجّالُ يلبس، كاذبا ً ريش النعامة وهو ذئب ٌ أمعرُ هو مَنْ عَر ِفتَ (بأرضِكُم وبأرضِنا) (الأصل: 'بدنشواي'ومثلُها) ألف ٌ تُداس ُ بنعلهِ وتُحقَّرُ هو من بَلونا، ليت أن َّ بلاءنا حزُّ الرقاب ِ أو الوباء الأصفرُ.