أعادت الثورة المصرية الاعتبار لمفاهيم التغيير بالقوة الجماهيرية السلمية. وأحيت أدبيات في التغيير يمكن اختصارها في صورة نظرية مفادها أن شعبا إذا قرر شبابه أن يغادروا بكثافة بيوتهم إلى الشوارع مسلحين بحناجرهم وفي أيديهم كسرة خبز وقنينة ماء، أسقطوا النظام في مدة استثنائية! وهذا التوصيف قبل الثورة المصرية لا شك أنه مثير للاستهزاء ويكون صاحبه مظنة للجنون. لكن هذا ما جسدته الثورة المصرية عمليا واستطاعت إسقاط أعتى الطواغيت العرب في 18 يوما. و كسرت بذلك الصورة النمطية التي تسوقها الأنظمة الحاكمة والتي مفادها أن الشعوب العربية ''همج فوضوي'' ليس أهلا بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وأن الذي يصلح لها هو الضبط الأمني والاستبداد السياسي. الثورة التي وضعت الشباب في طليعة التغيير الشعبي، عرت بالمقابل عن حقيقة صارخة وهي أن الأنظمة وحشية ودموية. لكن من الخطأ، حين الحديث عن الدروس والعبر في الثورة المصرية وغيرها، النظر إلى الموضوع من زاوية واحدة تتعلق بالحكام فقط، ذلك أن الثورة المصرية وهي توجه الرسائل إلى القادة العرب، وجهت بالمقابل، وبكثافة أكبر وأبلغ، رسائل إلى الشباب العرب والشباب أينما كانوا. لقد تحدث الجميع عن التغيير الجماهيري. والثورة المصرية عالجت معضلة جدلية الكم والكيف في تطبيق رائع، بين كيف تتحر الجماهير من ''الإدمان السياسي'' على ''أفيون الأنظمة'' المتمثل في برامج الإعلام الرسمي وهستيريا كرة القدم وهستيريا المهرجانات وهستيريا العبث بكل أشكاله وأنواعه، الذي يجعلها تغفل عن قوتها وقدراتها، وتتحول إلى قوة عاتية تزيح حاجز الظلم المانع من تحقيق شعار ''الشعب يريد''. وبين كيف يتحول التجمع السلمي المنظم إلى قوة قاهرة للأجهزة الأمنية والعسكرية وأسلحتها وكيدها وإعلامها وعملائها. وكيف يتحول الإصرار على النضال إلى سلاح معنوي وسياسي يشل جبروت النظام ويدفعه إلى الاستسلام. وكيف يتحول السلم إلى أكبر حملة إعلامية ضد عنف الدولة. و كيف يتحول التنظيم وتجاوز الحزبية الضيقة والطائفية المقيتة إلى حصن متين ضد مكر الأجهزة وألاعيبها. كيف وكيف... الثورة المصرية إذن ليست مجرد تجمع شبابي غاضب يعتصم في الساحات ويرفع الشعرات ويعلن مطالب. الثورة المصرية زخم جماهيري موحد المشاعر والرؤية والهدف، الثورة المصرية إرادة جماعية قوية، الثورة المصرية إصرار على الاستمرار، الثورة المصرية وضوح سياسي، الثورة المصرية قوة سلمية، الثورة المصرية تضامن، والثورة المصرية أخوة وطنية وإنسانية، الثورة المصرية أخلاق عالية وواعية، الثورة المصرية التزام جماعي بقيم النضال السياسي العالية... الثورة المصرية قطاف ثمار قد نضجت على مهل، الثورة المصرية دروس في السياسة والنضال. والثورة المصرية بكل ذلك ليست منتوجا جاهزا للاستيراد والتجريب هنا وهناك، أو ''تقليعة سياسية'' تتحقق بالتقليد. وإذا كانت الثورة المصرية قد أسقطت مبارك في أقل من ثلاثة أسابيع فكم استغرقت عناصر قوتها الحقيقية في النضج والتهيؤ؟ لقد تحدث الرئيس الأمريكي باراك اوباما في بيانه يوم الخميس عن المتظاهرين وقال ''...رأينا شبانا ومسنين.. اغنياء وفقراء ..مسلمين ومسيحيين يشاركون سويا ويكسبون احترام العالم من خلال مطالبتهم بالتغيير دون اللجوء للعنف''. وتحدث وسائل الإعلام العالمية بإعجاب كبير بالسلوك الحضاري والمدني للثورة المصرية. وشبهت وكالة الأنباء الفرنسية ميدان التحرير ب ''مدينة فاضلة'' خالية من معظم الظواهر السلبية التي يعاني منها المجتمع المصري. وأكدت أنه ''رغم تجمع الآلاف من جميع الفئات والأعمار في هذا المربع الصغير لم تسجل حالة تحرش واحدة بالفتيات المشاركات في التظاهرات ولا سرقة أو فقدان أي شيء مهما خف وزنه وغلا ثمنه''. لقد نقلت وسائل الإعلام صور ''الثورة الفاضلة''، التي جمعت بين مختلف الفئات في المجتمع المصري وبين مختلف التيارات والتوجهات الفكرية والسياسية والدينية. في ''الثورة الفاضلة'' لا تغيب المشاعر الإنسانية، حيث حضرت النكتة والكاريكاتير والأغنية والشعر، ونظم حفل زفاف... ولا يتنصل المجتمع من هويته حيث أقيمت الصلوات الخمس والجمع ورفعت الأكف بالدعاء ... في ''الثورة الفاضلة'' يتقاسم الناس الأكل والشرب ومكان النوم... في ''الثورة الفاضلة'' يتم إعادة ترتيب الفضاء وتنظيفه وترميمه. باختصار في ''الثورة الفاضلة'' لا مكان للسلبية وهذا هو سر قوتها الخلاقة. صفة ''الفاضلة'' هي شعار وعنوان رسائل الثورة المصرية إلى الشباب العربي وشباب العالم أجمع. ''الثورة الفاضلة''، وليس الثورة الهادرة هي التي أسقطت مبارك وأبهرت العالم. والسؤال الأهم في هذا السياق ليس من القائد العربي التالي بعد مبارك وبن علي بل ما هو الوطن العربي الذي يستطيع فيه الشباب تنزيل ''الثورة الفاضلة''؟ لكن إذا كانت ''الثورة الفاضلة'' بكل هذه المعاني النبيلة فلماذا يتوجس منها القادة الجادون الصادقون؟ قد يجد القادة الصادقون المخلصون أنفسهم محاصرين بجيوش من المرتزقة ومن لوبيات الفساد، ويعجزون على مقاومتها ومحاربتها واجتثاتها. فلماذا لا يعلنون هم أنفسهم ''الثورة الفاضلة'' في البلاد ويستفيدوا من قدراتها السريعة والناجعة في تطهير الأنظمة السياسية من أمراض الفساد الفتاكة. لعل هذا هو المضمون الأقوى لرسالة ثورة مصر إلى الشباب: ثورة ضد الفساد. ثورة بإمكان القادة المخلصين الصادقين إعلانها وقيادتها لتحرير أنظمتهم من إثم الفساد وتجديد تجدرهم الشعبي فيما يخدم البلاد والعباد وفق إرادة الشعب.