نعترف بأننا نشعر بالقلق والخوف على الثورة التي فجرها الشباب المصري، للإطاحة بنظام ديكتاتوري بوليسي متعجرف وإعادة مصر إلى دورها الريادي في المنطقة والعالم بأسره. مبعث هذا القلق نابع من تعاظم محاولات، داخلية وخارجية، لوأد هذه الثورة وتفريغها من محتواها وتجييرها لحسابات قوى كان دورها ثانويا أو محدودا فيها. نظام الرئيس مبارك استطاع أن يحقق، في اليومين الماضيين، عدة إنجازات أدت إلى التقاط أنفاسه وكسب بعض الوقت لتثبيت بعض أركانه وامتصاص جانب لا بأس به من الاحتقان الشعبي الرافض لوجوده، رغم أن هذا النظام لم يقدم أي اعتذار إلى الشعب، واعترافاته بالأخطاء جاءت سطحية، ونجح في استعادة الإمساك ببعض مفاصل الحكم كان قد خسرها أمام زخم الاحتجاجات. إنجازات النظام يمكن اختصارها في مجموعة من النقاط الرئيسية: الأولى: تخلي الإخوان المسلمين عن شروطهم السابقة بعدم الحوار مع النظام إلا بعد رحيل الرئيس حسني مبارك، وجلوسهم إلى طاولة المفاوضات، إلى جانب آخرين، مع اللواء عمر سليمان وقبولهم، مع بعض التحفظات، ببيان ختامي للاجتماع يتبنى كل ما ورد في الخطاب الأخير للرئيس مبارك حول التعديلات الدستورية، ولا يتضمن أي ذكر لرحيله. الثانية: إحداث شرخ يتسع يوما بعد يوم، بين جبهة المعارضة وقيادة الشباب المتظاهر نفسه، فقد لوحظ أن مجموعة ادعت تمثيل هؤلاء شاركت في الحوار مع نائب الرئيس. الثالثة: طرح الثورة العفوية الشبابية على مسرح التحكيم وإفساح المجال ل»الوسطاء»، فقد شاهدنا تكرار مقولة «الحكماء» وتعدد لجانهم، وانضمام أو تسمية شخصيات في عضويتها، لم يكن لهم أي تاريخ وطني، بل إن بعضهم خدم جميع العصور وتقلب في مناصب حكومية ابتداء من عهد الرئيس جمال عبد الناصر ومرورا بعهد محمد أنور السادات وانتهاء بعهد الرئيس حسني مبارك، ويسنون أسنانهم لتبوؤ مناصب قيادية في العهد الجديد. القول بأن هناك لجانا للحكماء يوحي بأن مفجري هذه الثورة هم من «المجانين» أو «القصّر» ويحتاجون إلى من يعقّلهم أو يتفاوض باسمهم. الشباب المصري لم يفجر ثورته ويخرج بالملايين إلى شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس وباقي المدن المصرية من أجل تعديلات دستورية أو تنصيب اللواء عمر سليمان رئيسا، وإنما من أجل إطاحة نظام وإسقاط عهد فاسد قمعي وإزالته من جذوره وتقديم كل الفاسدين والبلطجية فيه إلى العدالة. نظام حكم الرئيس مبارك انتهك حقوق الإنسان، ومارس التعذيب، وصادر الحريات، ونهب ثروات البلاد، وجوّع أكثر من أربعين مليون مصري، وأهان كرامة أربعين مليونا آخرين، والتفاوض معه هو اعتراف باستمرار شرعيته وتضحية بدماء الشهداء. من الواضح أن التصريحات التي أدلى بها فرانك وايزنر، المبعوث الأمريكي إلى مصر، التي قال فيها إن الرئيس مبارك يجب أن يستمر في الحكم حتى إجراء التعديلات الدستورية المطلوبة، قد أحدثت انقلابا في الموازين السياسية ورجحت كفة النظام وأثبتت عمليا أن مطالبة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالتغيير الفوري كانت مجرد «مسرحية» مكشوفة، هدفها تحسين وجه أمريكا وادعاء أن البيت الأبيض لا يساند الدكتاتور. الجيش المصري مارس دورا مخادعا أيضا عندما ادعى حيادا لم يثبت عمليا على الأرض ولم يقم بواجبه في الاستجابة لمطالب الشعب في خلع الدكتاتور، أسوة بزملائه في تونس، وهناك مؤشرات على أنه بدأ ينقلب على الثورة تحت مسمى حفظ النظام والاستقرار، فمنعه للمتظاهرين من الوصول إلى ميدان التحرير تحت ذريعة تسهيل حركة السير يصب في هذه النتيجة، والإيحاء بأن الحياة بدأت تعود إلى مجراها الطبيعي في البلاد. الثورة الشبابية لم تعكر صفو الحياة الطبيعية في مصر، بل كانت ثورة منضبطة من أجل استقرار حقيقي ودائم في البلاد، من أسس للفوضى وتعطيل سبل الحياة هو النظام الذي رفض الرحيل استجابة لرغبات الشعب، ولو كان الرئيس مبارك فعل ما فعله الرئيس زين العابدين بن علي، رحمة بمصر وحرصا على أمنها واستقرارها، لهدأت هذه الثورة وعادت الحياة إلى طبيعتها قبل أسبوع على الأقل. نستغرب التراجع المفاجئ لحركة الإخوان المسلمين عن شروطها المحقة والشرعية في ضرورة سقوط النظام، مثلما نشعر بالحزن لجلوسها مع أخطر شخص في هذا النظام والتفاوض معه لإطالة عمر نظامه تحت ذرائع لم تكن مطلقا على رأس مطالب الثوار، وهي إجراء تعديلات دستورية في ظل استمرار الرئيس في موقعه حتى نهاية مدة رئاسته. الإسلاميون اشترطوا التفاوض مع الجيش وقيادته فقط، ليس من أجل تطبيق الإصلاحات أو التعديلات الدستورية، وإنما تأمين خروج النظام وجميع أركانه، فكيف وقعوا في مصيدته، أي النظام، وأسقطوا مطالبهم جميعا قبل إسقاط الرئيس وحكمه. هل هي البراغماتية السياسية في الوقت الخطأ أم إنها محاولة لانتزاع شرعية من نظام فاقد للشرعية.. أم هي خطوة للحصول على اعتراف أمريكي.. أم إنها محاكاة لنموذج حزب «العدالة والتنمية» في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان؟ لا بد أن هناك اتصالات في الكواليس لا نعرفها، وإلا ما معنى مسارعة السيدة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، إلى الترحيب بمشاركة الإخوان المسلمين في الحوار مع اللواء سليمان.. وهل يعقل أن الولاياتالمتحدة ستؤيد حكما إسلاميا في مصر يلغي معاهدة «كامب ديفد» ويؤيد المقاومة ضد إسرائيل؟ النظام المصري، الذي يملك ثلاثين عاما من الرصيد القمعي وكيفية التلاعب بأوراق المعارضة وتقسيم صفوفها، أعد «مصيدة» خطيرة للثورة. ويبدو أن بعض فصائل المعارضة قد ابتلع الطعم وسهل للنظام مهمته في هذا الإطار. نحن لسنا مع تجويع الشعب المصري، بل نحن ضد الذين جوعوا هذا الشعب وجعلوا نصفه يعيش على أقل من دولارين في اليوم، وندرك جيدا حجم معاناة هذا الشعب في ظل تعطل الحياة العامة في البلاد، ولكن علينا أن نتذكر أن من سحب الشرطة وفتح البلاد على مصراعيها أمام اللصوص الرسميين الذين تخفوا في ملابس مدنية هو النظام الذي تتفاوض معه ما يسمى بفصائل المعارضة المصرية. لا يحتاج الإخوان المسلمون إلى الذهاب إلى طاولة الحوار مع اللواء سليمان حتى يتعرفوا على نوايا النظام مثلما قال أحد المتحدثين باسمهم، فنوايا النظام واضحة للعيان، وهي كسر هذه الثورة وتشتيت فعالياتها وتمزيق أوصالها وتثبيت النظام حتى يعاود الانقضاض على المتظاهرين والانتقام منهم. ما زلنا نثق في شباب مصر وقدرتهم على التغيير وإطاحة نظام الطاغية وفي أسرع وقت ممكن، وما نتمناه عليهم أن ينفضوا أيديهم من كل «الحكماء» و«الانتهازيين» ورجال كل العصور والمتطلعين إلى سرقة إنجازهم العظيم، وما أكثر هؤلاء.