على مر تاريخ المغرب المعاصر، لم تعرف أسرة التعليم حربا شعواء، كالتي تخوضها ضد نسائها ورجالها حكومة "الإخوان" منذ الإعلان عن تنصيبها في يناير 2012، مدعمة بجيش من المتزلفين ومساهمة عشرات المواقع الإلكترونية، الباحثة لنفسها عن موطئ قدم في مجال الإعلام، والتي لا تحسن عدا الاقتيات من صناعة الشائعات والترويج لها، ومن قذارة بعض الجرائد الورقية ك"أخبار البوم"، إذ تعكف على تصيد الهفوات من أجل التشنيع بالمدرسين، مقابل تلميع الصورة الضبابية لرئيس الحكومة، الذي بدل تحقيق ما التزم به من وعود انتخابية، دخل في نفق مظلم من التهريج والخلافات المفتعلة وتصفية الحسابات الضيقة، وسوء التدبير المتجلي أساسا في الاستبداد بالرأي والارتجال والعشوائية… فالمهتمون بالشأن التعليمي ببلدنا، يعلمون جيدا ما قامت به هذه الحكومة في نسختيها السابقتين بمباركة رئيسها، من إجراءات تعسفية تستهدف بسطاء القوم وتضييق الخناق على نساء ورجال التعليم، والإجهاز على مكتسباتهم، باعتبارهم منارة للعلوم ومصدرا للمعرفة والتوعية، ونسأل الله السلامة من أن تسير النسخة الثالثة على نهج سابقتيها. إذ لم تعد تغيب على أذهان المغاربة تلك الصورة البئيسة للمدرسة العمومية، التي رسمتها لها الحكومات المتعاقبة، وزادتها قتامة الحكومة الحالية لعدم قدرتها على جعل ملف التعليم رهانا حكوميا حقيقيا. وليس جديدا خروج موقع إلكتروني من تلك المعروفة بانتهازيتها والفاقدة لأبسط شروط المهنية الإعلامية، يوم الأحد 24 ماي 2015 بعنوان عريض، يكفي عدد كلماته في إنتاج نص إنشائي لتلميذ في مرحلته الأولى من التعليم الأساسي، يقول: " بن كيران ينصف موظفي التعليم، ويلغي مذكرة بلمختار حول التقاعد النسبي"، حسب ما ورد في "الخبر" على لسان قيادي نقابي بإحدى النقابات المغمورة، الموالية لحزب "العطالة والتعمية". وجدير بالذكر، أن وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، سبق لها إصدار مذكرة بتاريخ: فاتح أبريل 2015 تحت رقم: 1/3344، حول تدبير مسطرة الاستفادة من التقاعد النسبي، المفوضة لمديري الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين حق الإمضاء، وإحداث لجن مختصة تتولى أمر دراسة الملفات، وإبداء الرأي النهائي بالموافقة أو عدمها، وتشترط توفر الراغبين في الاستفادة على أقدمية 30 سنة من الخدمة الفعلية إلى غاية 31 غشت من كل سنة، قبل تقديم طلباتهم. وهو ما يعد خرقا سافرا ل"مقتضيات القانون المنظم لنظام المعاشات المدنية، والذي يحدد شروط اكتساب الحق في الحصول على التقاعد النسبي قبل بلوغ السن القانونية للإحالة على المعاش". الذي لا يلزم طالب التمتع بهذا الحق عدا قضاء 15 سنة فقط من العمل بالنسبة للمرأة و21 سنة للرجل. والأفظع من ذلك، أن الوزارة الوصية عللت إقدامها على اتخاذ هذا القرار المجحف، بوجود نقص حاد في الموارد البشرية، دون أدنى مراعاة لظروف فئة واسعة من الموظفات والموظفين، الذين لا يطالبون إلا بتطبيق القانون للتفرغ إلى مشاكلهم الشخصية وحالاتهم الصحية المتردية، حتى لا يؤثرون على مستوى التحصيل لدى تلامذتهم… وبالعودة إلى ما ورد في "الخبر" إياه من محاولة مكشوفة لتضليل الرأي العام، عن إنصاف بنكيران موظفي التعليم، من خلال إصدار أوامره "المطاعة" إلى وزيره رشيد بلمختار بإلغاء المذكرة المشؤومة، فلا يعدو أن يكون مجرد حملة انتخابية مبكرة، مادام الأمر يتعلق فقط باضطرار الوزارة أمام الاحتقان الحاصل في الساحة التعليمية، إلى مراجعة موقفها والموافقة على منح التقاعد النسبي لجميع الراغبين في الحصول عليه، والمستوفين شرط 30 سنة من العمل، دون العودة إلى رأي اللجنة. فأين نحن من الإنصاف؟ وحتى إذا ما اعتبرنا أن الإلغاء يشمل المذكرة وليس فقط اللجنة، والإبقاء على القانون الأصلي، فإنه لا معنى لما يحدث، سوى أن الحكومة عبارة عن أرخبيل من الوزارات بدون خيط ناظم بينها وبلا رؤية واضحة، مما يطرح التساؤل حول مدى صحة القول بانسجام وتناغم مكوناتها؟ وعلى الأقلام المأجورة والأبواق المهجورة، أن تعلم بأن قاموس بنكيران خال من معنى الإنصاف ومن كل القيم الرفيعة، التي ترقى بمستوى الخطاب السياسي إلى أعلى الدرجات، وتجنبنا الخوض في الترهات والمعارك المجانية. فالرجل لا يؤمن بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، بقدرما يؤمن بأنه جاء للحكم بمشيئة إلهية وإرادة شعبية ورغبة ملكية، وأن ما يتخذه من تدابير وقرارات هي عين الصواب. إذ لو كان صادقا في أقواله ومقدرا لمسؤولياته، ما كان ليخل بالتزاماته ويسمح لنفسه ووزيريه الأول والثاني في وزارة التربية الوطنية، بالتنكر لما يقدمه رجال التعليم من تضحيات جسام وخدمات جليلة في ظل ظروف قاسية ومتأزمة، بغرض طرد الجهل من عقول أطفالنا وتنويرها، ولاتجه رأسا إلى الأسباب الحقيقية والموضوعية، الثاوية وراء أزمة منظومتنا التعليمية، بدل تحميلهم وزر هذا التردي الخطير، الذي أنفقت من أجل تجاوزه ميزانيات ضخمة بدون طائل. ولو جاء فعلا لمحاربة الفساد كما ظل يردد بزهو، ما كان ليطلق عبارته الشهيرة "عفا الله عما سلف" في وجه المفسدين، ويبحث عن مشاجب لنشر فشله الذريع، ولفت أنظار الشعب عن قضاياه الحقيقية، وتحويل مدفعيته في اتجاه إخراس صوت الحق في أي موقع، حتى وإن كان نابعا من داخل ائتلافه الحكومي أو حزبه. ولعل جردا سريعا لجزء مما اتخذته حكومته من إجراءات ظالمة في حق أسرة التعليم، يظهر بما لا يدع مجالا للشك أنه يكن حقدا دفينا للمدرسة العمومية والعاملين بها، ويساهم في خدمة مصالح لوبيات التعليم الخاص. وإلا فما معنى اتهام المدرسين بضعف التكوين، انعدام الكفاءة وعدم الاستقامة، ممارسة العنف والتشجيع عليه، التحرش الجنسي (تقبيل المتعلمين الصغار) وتدريس الخرافات… ناهيكم عن حرمانهم من استكمال دراساتهم العليا بمبررات واهية، التضييق على الحريات النقابية والاقتطاع من أجور المضربين وتمديد سن التقاعد بحوالي ستة شهور إلى غاية 31 غشت 2015، لفائدة فئة من المدرسين البالغين سن التقاعد دون إشعار سابق، وما تلا ذلك من ارتباك في التوصل برواتبهم….؟ فليعلم السيد بنكيران ومن يدور في فلكه، أن البلد يزخر بالكثير من الطاقات المخلصة في سائر القطاعات، نذرت نفسها لخدمة العلم والمصلحة العليا للوطن. وأن أسرة التعليم، إيمانا منها بروح المسؤولية ونبل الرسالة التربوية، ستواصل سيرها بثبات نحو المزيد من البذل والعطاء للنهوض بجودة الخدمات ومستوى الناشئة، رغم انعدام المناخ التربوي السليم، غير مبالية بما يوجه إليها من ضربات موجعة… وعليه أن يدرك أن رفع التحديات لا يتم عبر الانقضاض على القدرة الشرائية للمواطنين وشيطنة المدرسين، ولا بالهرطقة والقهقهات العالية والاستفزازات اللفظية والعض بالنواجذ على المنصب وتطبيع العلاقات مع القصر، بل بوضع مشروع متكامل لإعادة بناء الاقتصاد والتعليم والصناعة، وكسب رهان التنمية بإنعاش الشغل وتوفير السكن اللائق والتطبيب والتخفيض من نسبة المديونية… أيها المتزلفون.. متى أنصف بنكيران المدرسين؟