لو شبهنا حالة التعليم في المغرب بالميت سريريا و الذي يرفض القائمون عليه الاعتراف بموته لكان التشبيه متفائلا !! ولو شبهنا تلاميذ وطلبة المغرب بحقل للتجارب الفاشلة لكان التشبيه إيجابيا أكثر من الواقع !! ففي تقرير التنمية البشرية لسنة 2014، الذي أصدره برنامج الأممالمتحدة للتنمية ، احتل المغرب المركز 129 عالميا. وفي آخر تقرير صادر عن "اليونسكو" عام 2013 حول "الجودة في التعليم" وضع المغرب ضمن 21 أسوأ دولة بجوار دول كبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد وكوت ديفوار وإثيوبيا وغينيا وليبيريا.. قبل أن نبدأ في طرح سؤال: « كيف وصلنا إلى هذه المراتب المتدنية ؟ » علينا أن نعرف « في أي سياسة تربوية/تعليمية نعيش ؟ » . بعد توالي اعلان الفشل و التصريحات الحكومية إما بالتهرب من المسؤولية أو إلقاؤها على الغير تقرر تفعيل البرنامج الاستعجالي2009/2012 كمحاولة للترقيع و لملمة حطام التعليم العمومي من قبل نخبة حاكمة لم ولا تدرس أبناءها في مدارسه أو جامعاته وتم ضخ حوالي 32 مليار درهم من ميزانية الاستثمار و الميزانيات الاضافية لتحقيق أربعة أهداف أساسية : 1 – تحقيق إلزامية التمدرس و تعميم التعليم الأولي… 2- حفز روح المبادرة و التفوق في الثانويات و الجامعة… 3 – الإصلاح الأفقي للمنظومة التربوية… 4 – ترشيد الموارد المالية… أمام كل هذه الاهداف و الموارد المالية و الخطابات السياسية و التراشق بالمسؤولية و دق نواقيس الخطر جاءت التقارير الدولية لتسقط ورقة التوت الأخيرة عن عورة هذه السياسة و لتبين أن هذه الاجراءات كانت نتائجها أكثر كارثية من سابقاتها: فقد احتل التلاميذ المغاربة المراتب الدنيا في مجال التقويمات الدولية في مجال التعلمات الأساسية مسجلين بذلك تراجعا كارثيا بهبوط في متوسط النقط في مجال القراءة من 350 في 2001 إلى 310 في 2011، وبتراجع من متوسط نقط 347 عام 2003 إلى 335 عام 2011 في مجال الرياضيات ، كما سجل تراجع في مجال العلوم بنسبة تصل إلى 40 نقطة ، دون أن نتحدث عن تراجع نسبة الحاصلين على البكالوريا ب 8% سنة 2013 مقارنة ب 2012 . !! أين الخلل في منظومة التعليم المغربي منذ عهد الاستقلال إلى اليوم و التي جعلت أولياء التلاميذ و التربويين يتحسرون على عصر التعليم في الكتاتيب, عصر ما قبل السبورة و الطباشير و النشيد الوطني, زمن اللوح الخشبي و الصلصال و قلم القصب ! حيث لا وجود لتمييز مادي أو لغوي أو فرض لمقررات و مناهج منزلة تزيلا على واقعهم. إن قضية إصلاح التعليم ولدت مع بداية تشكل المغرب الحديث وكانت على رأس مطالب الحركة الوطنية و التي مباشرة بعد الاستقلال تبناها الملك الراحل محمد الخامس في " اللجنة الملكية لإصلاح التعليم " التي عقدت أول اجتماعاتها يوم 28 سبتمبر 1957 معلنة الثوابت الأساسية للتعليم المغربي العمومي و التي عُرفت " بالمبادئ الأربعة" : التعميم , التوحيد , التعريب , و مغربة الأطر. التعميم : وذلك بجعل التمدرس إلزاميا و متاحا لكل الأطفال في سن التعلم 6 أو 7 سنوات . التوحيد : بجعل المدرسة الوطنية واحدة بدل التعدد الذي كرسه الاستعمار (مدارس أوروبية , مدارس يهودية , و مدارس إسلامية) مختلفة المضمون و المُخرجات. التعريب : جعل اللغة العربية لغة لتدريس كل المواد بدل لغات المستعمر : الفرنسية و الاسبانية. مغربة الأطر : تعويض الأطر الأجنبية بأطر مغاربة. و الملاحظ أن المبدأ الاخير هو الذي تحقق على الأقل شكليا , مما يدفعنا لتفكير في أسباب فشل أو تعثر باقي المبادئ طوال 60 سنة من الاصلاحات و البرامج و تضرر أجيال من أبناء الشعب و الطبقات المتوسطة و الدنيا. 1 – الخوصصة و التغريب بدل المجانية و المغربة : مع ميلاد مغرب الاستقلال وجد المخططون الأوائل للتعليم المغربي أنفسهم أمام شعب مُحتاج إلى تعليم و أغلبيته الساحقة من الفقراء , فكانت المجانية هي شرط الضروري لكي يلتحق أبناء المغاربة بالتعليم العمومي الذي يُنفق عليه من ثروات وطنهم و ليس بهبات من المستعمر أو صدقات من كبار الملاك و رجال المخزن , لكن مع مطلع الثمانينات ظهرت البوادر الأولى لسياسة القضم من ميزانيات و نفقات التعليم العمومي في سياسة التقويم الهيكلي التي جاءت بسنوات عجاف كادت أن تجر المغرب إلى هاوية الفوضى بسبب الاحتجاجات الشعبية الرافضة لمسميات الاصلاح على حساب ميزانية المواطن البسيط. مع بداية مرحلة التسعينات و فترة الانفتاح على السوق الدولية ودخول المغرب إلى اتفاقية التجارة العالمية , سعى القائمون على الاقتصاد الوطني إلى جلب الاستثمارات و القروض الدولية المشروطة بتوصيات البنك الدولي و صندوق النقد العالمي التي كان على رأسها ترشيد النفقات على القطاعات غير منتجة , فكان التعليم العمومي مرة أخرى الضحية التي لا مدافع عنها , وبدأت مرحلة خوصصة مرافق الدولة حتى ينطلق الاقتصاد الحر كما يزعمون فكانت النتيجة فشل اقتصادي و اجتماعي كبير زاد من الفروق الطبقية واستفاد من هذه الفوضى كبار رجال الأعمال و المخزن-الاقتصادي , و زادت الهوة و الفارق التعليمي بين المغرب و أقرانه من الدول العربية و الأجنبية. بداية عقد الألفية إلى اليوم انتشرت " المدارس الخصوصية " بمباركة وتسهيل من الوزارات المتعاقبة بذريعة مساهمة القطاع الخاص في إعطاء منتوج تربوي جيد و تخفيف الحمل على الدولة ! هذه المدارس المؤدى عنها التي يرتادها الكثيرون من الطبقة الوسطى و تشكل عبئا ماديا كبيرا على دخلهم , لا تعطي أي مردود يختلف عن منتوج المدرسة العمومية , كمثال ( الحاصلين على النقط الاولى في امتحان الباكالوريا هم ككل سنة ليسو من أبناء التعليم الخصوصي بل من التعليم العمومي) , ما يجذب الكثيرين في التعليم الخصوصي هي خديعة " نفخ نقط المراقبة المستمرة " و تحويل المعرفة و القيم إلى مجرد نقط تباع و تُشترى أو سلع تتنافس المدارس/الشركات على بيعها : "ظاهرة تسليع التعليم " , و الكارثة الأخرى هي فصل التعليم عن الهوية الوطنية و الدينية للطفل المتعلم , فبعد أن جاهد المغاربة لسنوات حتى يحصلوا على استقلالهم و يتحرروا من أغلال المستعمر جاءت " المدرسة الخصوصية " لتُدرِّس أبناء المغاربة بمقررات و مناهج فرنسا و اسبانيا و أمريكا بما تحمله من قيم و هوية إنسان آخر أو طفل آخر يعيش في الضفة الأخرى , حتى يصل الحد أن يفتخر الأب أو الأم _ المصابين بعقدة المستعمر _ بطفلهما الذي يتقن الفرنسية أو الانجليزية و يتغنى بها منذ نعومة أظافره أو أن يفتخر الآباء أن أولادهم لغتهم الأجنبية جيدة في حين أنهم لا يتقنون العربية أو الدارجة المغربية أو الأمازيغية !!. ساهمت النخبة الاقتصادية الحاكمة في توجيه السياسة الاقتصادية نحو تبني اللغة الفرنسية في الادارات و المؤسسات العمومية و جعلها لغة الاقتصاد و المقاولة , و ساهم الاعلامي الرسمي في تكريس صورة الطفل المتحضر لغته فرنسية راقية , بينما اللغة العربية لا يتكلمها إلا أطفال ضواحي المدن و العشوائيات , أما اللغة الأمازيغية ولسنوات ظلت لغة للفلكلور و الرقص الشعبي أو للتقارير عن المناطق المنكوبة أو النائية. ما لا يعلمه الآباء و أصحاب المدارس الخاصة أنهم بعد سنوات سيحصلون على طبيب غير قادر على التواصل مع مريضه عن مكان الألم أو اسم العضو أو سبب الجرح, وقس على ذلك المهندس و القاضي… 2- المَخْزَنة و التخريب بدل الحكامة و الاصلاح : لسنا بحاجة للاستدلال بالتقارير الدولية أو بتوصيات المنظمات العالمية عن أهمية الحكامة أو الحوكمة الجيدة أو الرشيدة في إصلاح التعليم و الرقي به, لكن يكفي القول أنه لا يوجد نظام تعليمي ناجح مع نظام تسيير تربوي متخلف , و أن التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع الصادر عن اليونسيكو سنة 2009 جعل له كعنوان موازي : أهمية الحوكمة في تحقيق المساواة في التعليم. جاء تعريف مصطلح الحكامة لأول مرة في تقرير للبنك الدولي سنة 1989 : « أسلوب لممارسة السلطة في تدبير الموارد الاقتصادية و الاجتماعية للبلاد من أجل خلق تنمية » بعد سنوات سيتم اضافة معاني " الحكامة التشاركية " و " الحكامة الرشيدة " إلى تعريف الحكامة لتوسيعه و تدقيقه , يمكن أن نضع أهم أركان الحكامة الجيدة في أربع عناصر : التشارك , المسؤولية , الشفافية و القرب. من خلال هذه التعريفات العامة للحكامة الجيدة يجب أن نطرح سؤال : إلى أي حد نظامنا التعليمي بمؤسساته التشريعية و التنفيذية من أعلى هرمه إلى أدنى و أصغر مكوناته يعتبر نظاما حكيما ؟ وحتى نجيب عن هذا السؤال يجب ان نعلم أن الحكامة في النظام التعليمي هي جزء من الحكامة العامة في المغرب و أغلب صفات النظام الحاكم في المغرب تنطبق على النظام التعليمي كما يقول المثل المغربي « الشيء الذي لا يشبه صاحبه فهو حرام ! » . لا يمكن وصف نظام الحكم في المغرب بالنظام الديمقراطي الحداثي الراسخ في المؤسساتية و دولة الحق و القانون , وحتى لو كنا شديدي التفاؤل فسنصفه بالنظام " السائر في طريق الديمقراطية " ولكن بسرعة بطيئة أو بجمود لمدد طويلة!!, لذا يمكن أن نستعدي وصف النظام الحاكم « بالنظام مخزني » و الذي من أهم صفاته حكم الفرد بدل المؤسسات, مركزية القرار و وجود مؤسسات شكلية هدفها تأثيث الديكور السياسي و وجود أجهزة قوية غير ديمقراطية تحتكر القوة و لا تتردد في ممارسة العنف للدفاع عن النظام الحاكم حتى لو اضطرت لخرق القوانين المحلية و الدولية. تتجلى « ظاهرة مخزنة التعليم » في وضع مصيره في أيدي أفراد و لجان غير منتخبة و تعمدها إقصاء مكونات الشعب الحقيقية , و هذه الظاهرة بدأت تستفحل أكثر حتى تطور الأمر في السنوات الأخيرة ليتم إقصاء الأحزاب و النقابات و القفز على قرارات البرلمان رغم شكلية و الضعف المتعمد في هذه الهيئات , و كأمثلة على التفرد بالقرارات التعليمية و ممارسة المزاجية قرارات وزير التربية الوطنية السيد رشيد بالمختار التي لم يستشر فيها النقابات أو الأحزاب أو أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني : 1- خطته لإصلاح التعليم حتى عام 2030. 2- مشروع تكوين الادارة التربوية. 3- منع الموظفين و الاساتذة من اجتياز مباريات المراكز التربوية. 4- منع الاساتذة من متابعة الدراسة الجامعية. 5- توقيف الترقية بالشواهد الجامعية. 6- رفع سن التقاعد. من مظاهر ظاهرة " مخزنة التعليم " إقحام أجهزة وزارة الداخلية في الشأن التربوي: 1- تكليف " المقدمين و القواد " وزارة الداخلية بمهام مراقبة حضور و غياب الاساتذة علما أن هذه المهمة منوطة وفقا للتشريع المدرسي إلى المدراء و المفتشين. 2- منع النشاطات النقابية و معاقبة المضربين بالاقتطاعات المالية, توقيف الأجرة, المجالس التأديبية, الاعتداءات البدنية في حق رجال التعليم, الاعتقال و السجن. 3- عدم اعطاء الرخص القانونية لجمعيات آباء و أولياء التلاميذ و التضييق على صلاحياتها نشاطاتها. 4- إدخال الحرس الجامعي إلى الكليات و الجامعات بعد سنوات من إلغائه. سمات أخرى من مظاهر افلاس المنظومة التربوية هي القرارات المزاجية كالتوظيف المباشر للأساتذة بدون أي تكوين تربوي , غياب الشفافية و المساواة في الحركة الانتقالية , استمرار مشكل الاكتظاظ في المدن و الاقسام المشتركة بالبوادي , ضعف النسبة الإيوائية للداخليات و الأحياء الجامعية , انتشار الجريمة و العنف المدرسي داخل المؤسسات التربوية و حولها , انتشار ظواهر الغش في الامتحانات , وانتشار ظاهرة الساعات الاضافية. 3- كيف يمكن إنقاذ التعليم المغربي؟ : النظام التعليمي في المغرب جزء من النظام السياسي العام , ولا يمكن نجاح أي إصلاح للنظام التعليمي في المغرب دون أن يكون جزءا من اصلاح عام يمس كل نواحي الحياة السياسية و الاجتماعية في المغرب. و المغرب أمام مفترق طرق هام : إما الوعي بالمسؤولية الكبيرة و المضي في ركب التقدم و الرقي نحو دولة الحق و القانون و المسؤولية و المحاسبة , أو استمرار ذهنية «المخزن العريق » و « مخزنة » كل مناحي الحياة السياسية و الثقافية و التعليمية وحتى الرياضية. على المتحكمين في السياسية التعليمية و التربوية أن يعلموا ويصرحوا أن السياسات و العقليات التي أنتجت أزمات التعليم في المغرب لن تكون قادرة على إيجاد حلول حصيلة سياسة التعليم المغربي : مخزنة خوصصة تخريب