التفكير درجة عليا في سلم البناء العقلي المعرفي، لذلك يحتل مكانة مركزية في علم النفس وفي علوم عدة، كونه عملية تتوخى إيجاد حلول ملائمة لمشكلات نظرية وعملية، وهي مهمة تتجدد باستمرار نتيجة ليقين الإنسان بأن وضعيته لا يمكن أن تقف عند حال، ومن ثم سعيه الدؤوب نحو التغلب على صعوبات تواجه طريقه نحو تقدمه في مدارج الكمال بقصد تجاوز الذات باستمرار نحو الأفضل. وتمثل دراسة عمليات التفكير تحديا حقيقيا لسيكولوجية العمليات الفكرية نظرا لطابعها التجريدي من جهة ، وللتماهى القائم على مستواها بين الموضوع والذات من جهة ثانية. يشتمل التفكير على عدد من العمليات التي تتصدى لمعالجة المعلومات بطرائق متنوعة مثل الملاحظة، الاستدلال، التصنيف، التحليل، التعليل، التركيب، التقييم، التعميم،التجريد، التنبؤ. ويضم تصنيفات مختلفة لاعتبارات متعددة كالفاعلية والموضوع والمستوى أو درجة التجريد، بدليل عدم وجود نمط تفكير مستقل بخصائصه. لقد تزايد الاهتمام العلمي بموضوع التفكير تزايدا ملحوظا في النصف الثاني من القرن العشرين، لا سيما منذ عقد الثمانينات منه، وأجريت بحوث ودراسات تربوية ونفسية عملا بمبادئ التربية الهادفة بكل أبعادها الى تنظيم الفكر عند المتعلمين، واستثمار طاقاتهم الابداعية، فالتفكير أداة أساسية في تحصيل المعرفة خاصة بعد الانتقال نظريا من مرحلة التلقين والتراكم الكمي للمعارف الى مرحلة تعلم التعلم. التفكير يتأثر التفكير بعدد من الدوافع والمثيرات الداخلية لها علاقة بالاهتمامات المعرفية، وتتجلى في حب الاستطلاع، والخارجية تبرز في حال استجابة عملية التفكير لتأثير عوامل خارجية ، ولكل فرد أسلوبه الخاص في التفكير يتأثر بنمط تنشئته، ودافعيته وقدراته وخلفياته الثقافية، لهذه الاعتبارات وغيرها تغيب رؤية موحدة بين الباحثين بخصوص تعريف التفكير وخصائصه وأشكاله، ويعزى هذا الغياب إلى اختلاف الاتجاهات والمرجعيات النظرية المؤطرة لكل تعريف على حده، علما أن تعقد مفهوم التفكير مصدره تعقد العقل البشري وعملياته، ولذلك تبقى معظم التعريفات المقدمة لا تخدم سوى مستوى معين من مستويات التفكير على حد تعبير الباحث E.de Bono. يعتبر الباحث E.de Bono التفكير عملية يمارس عليها الذكاء من خلالها نشاطه على الخبرة، والذكاء قدرة تعبر عن نفسها بواسطة التفكير. وبواسطة التفكير كما قال جيمس j. Alain يستطيع الإنسان أن يقيم اختياراته. يتكون التفكير من عمليات متنوعة ومتفاوتة من حيث أهميتها، فبعضها موجه نحو اكتساب المعرفة فقط، والبعض الآخر يتوجه نحو إنتاج المعرفة وتوظيفها، لهذا يميز الباحثون في مجال التفكير بين مستويين: مستوى أساسي تندرج فيه مهارات الملاحظة والمقارنة والتصنيف…، ومستوى مركب يترجم قدرة المتعلم على النقد ، الإبداع ، حل مشكلات ، صياغة قرارات، وكذا قدرته كذلك على التفكير فوق معرفيMétacognition ، وبالرغم من تباين نظريات علم النفس المعرفي في تحديد مراحل تطور التفكير وطبيعتها، فالثابت أن العمليات العقلية والبنيات المعرفية تتطور بصورة منتظمة ومتسارعة، وتزداد تعقيدا مع التقدم على مستوى النضج والتعلم. يتشكل التفكير من تداخل عناصر المحيط التي تضم: عنصر الزمن (أي مهلة التفكير)، الموقف أو السياق، الموضوع الذي يجري حوله التفكير، وهو جزء وظيفي من بنية شخصية الفرد، فنظام الحاجات والدوافع والانفعالات لدى الفرد واتجاهاته ، قيمه ، ميوله ، خبراته السابقة ، نجاحات وإخفاقاته، كل ذلك ينعكس على تفكير الفرد ويوجهه، وإذا كان الافتراض يؤمن بقدرة معظم الناس على الإبداع، فإن قدرة هؤلاء على التفكير والإبداع تختلف بشكل كبير من فرد الى آخر. يهدف التفكير إلى الوصول إلى نتيجة ذات معنى بصدد مسألة أو مهمة هي موضوع التفكير ، ولهذا تحضر أهمية البنية المعرفية للفرد، وما يذخره من مهارات لبلوغ النتيجة المطلوبة، لأن التفكير يتغيا رهن التفاعلات القائمة بين ماهو قائم ضمن البنية المعرفية للفرد، وقدرته على توظيف مهارات التفكير القائمة والمراد اكتسابها لمساعدته على إنجاز مهمته بنجاح. مهارات التفكير: مهارات التفكير عمليات معرفية إدراكية يمكن اعتبارها لبنات أساسية في بنية التفكير، وهي عمليات إدراكية منفصلة تساهم في بناء التفكير، تمارس وتستخدم عن قصد لمعالجة المعلومات مثل مهارات: المقارنة ،الاستنباط، التعميم، التجريد، حل مشكلات…،وتبقى هذه المهارات مفيدة للتلاميذ في مختلف المراحل الدراسية، لذلك حظيت باهتمام بالغ من قبل الباحثين في التربية، ومن القائمين على إعداد المناهج الدراسية بالنظر إلى أهمية تدريسها في التكوين الفكري والاجتماعي للناشئة، وفي هذا الإطار اشتهرت كتابات E.de Bono الذي وضع برامج عديدة بهدف تنمية التفكير، والتشجيع على تغيير نمطه، وحرص على التبسيط ، لأن العدو الأكبر للتفكير هو التعقيد. تعلم التفكير: يعتبر هوارد جاردنر Howard Gardner واحدا من الذين حاولوا تحديد الأنواع المختلفة لعمليات وقدرات التفكير، وقد أوضح تركيز المدرسين على قدرات محدودة جدا ضمن مجموع مكون من سبع قدرات توافق الذكاءات السبع. التفكير ونموه ليسا حصيلة عرضية لخبرة معرفية، وفعاليته ليست حتمية النمو الفيزيولوجي للطفل، لذلك تلعب المدرسة دورا استراتيجيا في نمو عمليات ومهارات التفكير لدى الفرد وفي تجديدها، فطاقات التفكير تتسع كلما توفرت للمتعلم شروط ملائمة: استراتيجيات ناجعة، عدة ديداكتيكية ملائمة، فضاء بيداغوجي مناسب،برامج وظيفية، نظام عادل للتقويم. وتبعا لاختلاف البيئات والظروف والعوامل المؤثرة، ظهرت مدارس متعددة في تعليم التفكير، وتبلورت في صورة اتجاهات علمية في تعليم التفكير. تعليم التفكير هو جزء من أدوات التنمية المعرفية Développement cognitif، وطالما أن التفكير ليس مرهونا بمرحلة عمرية محددة، فإن الجهود لا تتوقف من أجل خلق الفرص الممكنة لتعلم التفكير المنتج والمنظم، بيد أن التفكير الفعال يحتاج إلى تعليم منظم، هادف ومرن كي يبلغ أقصى مدى له، لأن التعليم المباشر لعمليات ومهارات التفكير يرفع مستوى التحصيل الدراسي، ويعطي لصاحبه إحساسا بالسيطرة الواعية على تفكيره، وينمي شعورا بالثقة في النفس. يتعلم الطفل التفكير قبل ولوجه الى المدرسة بمدة طويلة، لذا تبقى وظيفة المدرسة هي خلق الظروف الملائمة لنمو مهارات التفكير التي تبني شخصية الطفل ، ومن المؤشرات الدالى على تحول الذات قدرتها على التجريد، التعميم، التصنيف واتخاذ القرار وحل مشكلات، فالمدرسة التي لم تتخلص بعد من داء التلقين والشحن المعرفي لا تهيء روادها، ولا تمكنهم من الخبرات التي تعوزهم من أجل توظيف المعارف، وإبداء آراء أو تقديم اقتراحات واختيارات. غياب السؤال داخل الفصل الدراسي ، وعجز التلاميذ عن إنتاج معرفة خاصة بهم عندما يطلب منهم القيام بعمل شخصي وتعميقه، وتعثر عدد كبير منهم في تقديم إنتاجات شفاهية أومكتوبة مبنية مظاهر نتاج نظام تربوي لم يوفر الخبرة الكافية لزبنائه في مجال التفكير، ما يطرح وبقوة سؤال مهارات التفكير، وبالتالي مساءلة دور المدرسة في تنمية هذه المهارات، وهذا ما حذر منه كونفوشويس عندما اعتبر كل تعليم بلا تفكير جهد ضائع، وكل تفكير بلا تعليم تحفه مخاطر. تراكم المعارف وتطورها بوتيرة متسارعة يفرض تسليح المتعلم بأدوات منهجية تمكنه من اكتساب المعرفة وتوظيفها، فالمعلومة والتفكير لا يوجدان على طرفي نقيض، والأولى ليست بديلا عن الثاني، والمعلومة تستدعي التفكير لكي يعيد تشكيلها، وكلما توفر الوقت الكافي لكل عملية تفكير، إلا وتشكلت المعلومات بأسلوب يجعلها قابلة للنقل الى العالم الخارجي، وإذا كان من الصعب تحديد احتياجات الأطفال الى المعلومات المهمة والمفيدة لهم في المستقبل، فإنه في المقابل يعد توجيه اهتمام التلاميذ الى الطرائق والأدوات العقلية اللازمة في المستقبل مفيدا ، فالتعليم من أجل التفكير يمكن المتعلم من آليات التعامل بفعالية مع مختلف أنواع المعلومات. تكشف المعرفة لنا عن مغزاها من خلال التفكير، وعمليات التفكير (تحليل وتنظيم وتعميم …) بدورها تكشف عن معنى المعلومات، والخطوة الأولى نحو التقدم والإرتقاء بالنسبة للإنسان هي تنظيم الفكر. وقد ثبت أن المحن والصعوبات التي تخللت مسار البشرية عبر التاريخ لم يكن سببها نقص معرفي، بل نجمت عن قصور في تفكير الإنسان من أجل استغلال أفضل لما يحوزه من موارد وإمكانات معرفية. إذا كانت للعقل مهمات ثلاث هي: التفكير ، الشعور والسلوك، فالمؤكد أن الإنسان يعي شعوره ، ويدرك سلوكه، لكنه في المقابل يجهل عن تفكيره الشيء الكثير، كما أن تعديل الشعور والسلوك أمر ممكن، وكذلك تصويب فكرنا متاح رغم نقص إدراكنا له، وتصير مهمة التفكير الكبرى هي الكشف عن الشعور، وتفسير السلوك وهذه مهمة عسيرة، لأن التفكير في هذه الحالة سيصبح موضوعا للتفكير ذاته، وعندما يمارس التفكير نشاطه على ذاته، فإنه يسفر عن مواجهة صريحة وعنيدة مع الذات، تترك آثار سلبية على صاحبها، ما يجعل مشكلة التفكير في التفكير تبقى قائمة ومؤجلة، وتعقيدها نابع من صعوبة إدراك الواقع إدراكا مكتملا وصحيحا، لأن عمل نقل الواقع لن يكون مهما بلغ سوى صورة غير بريئة، وغير دقيقة لهذا الواقع، وجزء من التعقيد الملازم لإشكالية التفكير في التفكير مرده التهميش الذي طال "معرفة الأداء" لعدة عقود ،فقد حجب الإغراق في "معرفة الحقائق" عنا لمدة طويلة إمكانية مراقبة تفكيرنا، فاتسعت بفعل ذلك الهوة بين ما تعلمه المدرسة، والواقع الفعلي للأشياء. قوة المعرفة تنبع من التفكير فيها، لذا فتنمية التفكير الجيد والفعال مطلب أساسي في جميع مراحل التعليم، فالبرامج الدراسية يجب أن توفر فرص ووضعيات حقيقية لإعمال التفكير في ما تثيره هذه الوضعيات من أسئلة وقضايا ، لأن الأهم في ما نتعلمه هو الكيفية التي نتعلمه بها. إن تدريس مضامين مقرونا بتعليم مهارات التفكير يترتب عنه تحصيل أعلى مقارنة مع تعليم حقائق ومعطيات، ومن الإنصاف القول، أن عملية تنمية التفكير صعبة وشاقة، وتحتاج الى جهد، بيد أن تفتيت مهارات التفكير المركبة إلى مجموعة من المهارات الأولية سيتيح بالتدريج تنمية مهارات التفكير، ودمج مهارات التفكير في المحتوى الدراسي سيمكن المتعلم من أن يمارس تأثيرات على موضوع التعلم قبل أن ينتقل إلى المراحل المختلفة من المفهمة Conceptualisation والتجريد، حتى يستطيع بالفعل بناء المعارف المدرسية المتنوعة ، وبالتالي تعزيزالعمليات العقلية التي يتعلمها الطفل بهذه الطريقة بشكل مشترك من خلال جميع المواد الدراسية. تحقيق تعلم من مستوى عال يستهدف الجودة بدل الكم، تجاوز التلقين والتراكم الكمي للمعارف، واعتماد مبدأ التعلم الذاتي، كل ذلك رهين بتوفير بيئة ملائمة داخل الفصل الدراسي أو ما يسميه البعض بالبنية التحتية لتعليم التفكير، التي يمكنها أن تساهم أيجابا أو سلبا في عملية التفكير، فاستراتيجيات العمل والعدة الوثائقية وأسلوب التواصل والتنشيط، ونوع العلاقات المبنية تشكل عناصر أساسية في هذه البنية، فالتعلم يتطلب مجهودا من قبل المتعلم، لذلك ينبغي توفير محيط ملائم تؤثثه علاقات إيجابية، لأنه من الصعب أن نراهن على فضاء مدرسي فقير، وغير محفز من أجل إثارة دوافع التعلم، وتنمية الطاقات والإمكانات الذاتية. تواجه عمليات تخطيط البرامج الدراسية وتطويرها، وكذا تنفيذها تحديات عديدة، ولعل من أبرزها تنمية مهارات التفكير لدى المتعلمين، فطغيان الهاجس الكمي على حساب الجودة ، يقصر تدريسية مواد كثيرة على تقديم الحقائق في صورة ركام مما يتنافى مع الأهداف التي تسعى إليها، وهي التكوين الفكري والمدني والإجتماعي للناشئة وتطوير خبرة المتعلم. اعتبار تنمية مهارات التفكير النقدي والقدرة على مساءلة ظواهر، طرح إشكاليات والإسهام في معالجتها كأهداف نهائية تسعى لبلوغها تدريسية مجموعة من المواد الدراسية لن يتأتى إلا عن طريق استخدام مهارات التفكير. وعلى سبيل الختم ، فإن الميل نحو تدريس حقائق دون مساءلتها، وغياب المقاربة النقدية، وعدم تخلص المدرسة من داء التلقين، واستمرار الهاجس الكمي على حساب الكيف في البرامج الدراسية المقررة، والإدماج الشكلي لتكنولوجيا المعلوميات في التدريس لا يضمن الولوج إلى إنتاج المعرفة، ولايؤدي إلى تعلم التفكير، والحكمة تقول: أنت اليوم حيث أتت أفكارك ، وستكون غدا حيث تأخذك أفكارك.