تحيلنا جملة من الأحداث و الوقائع التي تتناولها وسائل الإعلام و صفحات التواصل الاجتماعي على فضاء مدرسي مشبع بالتوتر . فحالات الاعتداء اللفظي و المادي على أسرة التعليم كشفت عن السلبية التي تطبع تمثلات المجتمع حول المدرس , بينما أفرز الوضع النقابي المهزوز سلسلة من الانفعالات و المواقف التي أسست لحوار يضيق دعاته بالحق في الاختلاف و تباين وجهات النظر . و بدأ بالتشكل داخل الوسط التعليمي ما أسماه غوستاف لوبون بالجمهور النفسي , أي ذلك الكيان الخاضع للوحدة العقلية والذي تنطمس فيه الشخصية الواعية للفرد ! إزاء هذا الوضع , ولاستعادة الثقة في الوظيفة الاجتماعية للمدرسة , راهنت الوزارة الوصية على التدبير القانوني و تعزيز القبضة الأمنية لمواجهة الاختلالات و الانحرافات , لكن , هل يتعلق الأمر فقط بمرفق عمومي يقدم خدمة للمواطنين , أم بمؤسسة راعية للأخلاق و القيم , و فضاء مسؤول عن توجيه السلوك و تكوين الضمير الاجتماعي ؟ وهل يكمن حل معضلة التعليم في تزويد المؤسسة التربوية بجرعات تشريعية تعزز الالتزام بالواجب الوظيفي , أم في تعبئة الموارد و الجهود لتمكينها من استعادة حضورها و مكانتها الاعتبارية كوصية على المنظومة الأخلاقية الصائنة لتماسك المجتمع ؟ إن حصر الأداء التعليمي في تنفيذ المناهج و التوصيات الرسمية ينافي بطبيعة الحال ما يتمتع به المعلم من ثقل رمزي باعتباره نموذجا متحركا للمعرفة و السلوك. فالأمر يتعلق هنا برسالة لا بمهنة فحسب, وهذا يعني أن المسؤولية الأخلاقية أبلغ في توجيهها للأداء التعليمي من المسؤولية القانونية . لذا فالرهان على تعليم جيد يقتضي تحديد المعايير السلوكية والقواعد المرشدة التي يحتكم إليها العاملون في حقل التدريس , سواء في إدارة شبكة العلاقات داخل المؤسسة الواحدة ,أو في مواجهة المعضلات الأخلاقية . معلوم أن لكل مهنة إطارها المرجعي الذي تستهدي به لتحقيق أعلى قدر من التماسك بين أفرادها , ووصل الأداء المهني بأساس أخلاقي يُحفز على تجويد المهنة و الارتقاء بها فوق عتبة القاسم المشترك. و عادة ما يستمد هذا الإطار مقوماته من خصائص الدين المُتبع و القيم المنبثقة عنه , إضافة إلى العادات و الأعراف و الثقافة السائدة في المجتمع. هذا الإطار المرجعي هو ما يُعرف ب"أخلاقيات المهنة " أو "الميثاق الأخلاقي" . لكن حين يتعلق الأمر بالتعليم فإن استعادة دوره كوصي على القيم و السلوك الاجتماعي يتخطى بكثير تفريغ هذي القواعد في وثيقة رسمية و الحض على الالتزام بها , ذلك أن المعلم يجد نفسه أمام مسؤولية مزدوجة تقتضي منه الالتزام الخلقي في حياته الوظيفية وفي علاقته بالمتعلم و باقي مكونات المجتمع المدرسي من جهة , ومن جهة أخرى إيجاد الحلول و البدائل لما يُستجد في البيئة التعليمية من ومواقف وظواهر أخلاقية محيرة . يخلص الدكتور صديق محمد عفيفي في بحثه القيم حول "أخلاق المهنة لدى المعلم" إلى أن البيئة المدرسية اليوم تفرض إعادة هيكلة أساليب التعامل مع المواقف الأخلاقية .فافتراض وجود قواعد عامة للسلوك الواجب , و الحرص على التنفيذ الدقيق لها لا يُغني عن الحكم الأخلاقي الذاتي " إن المعلم الذي يعتبر أن التنفيذ الحرفي للحد الأدنى من القواعد الملزمة هو سقف مسؤوليته معلم لا يُدرك مطلقا الدور المنوط به و لا المسؤولية الملقاة على عاتقه . إن على المعلم إدراك الحكمة من القواعد و تطبيقها بما يتسق مع هذه الحكمة و يؤكدها." (1) إلا أن بلوغ مستوى عال من تخليق البيئة المدرسية ,لا يمكن أن يتحقق بالرهان فقط على شخصيةالمعلم و ضميره ومؤشرات ولائه للقيم العليا للمجتمع ,بل يستدعي من الجهات الوصية إعدادا مهنيا يتناسب مع وضعه الخاص , ويستجيب لمستوى توقعات المجتمع من سلوكه .أما القول الشائع بأن أي تدريب عملي في مسائل الأخلاق عديم الفائدة مالم يستحضر المعلم ضميره كسلطة أولى , فهو محض ادعاء يفترض أن السلوك ناتج فقط عن معرفة ما يجب , في حين أن التغير في السلوك , وهو جوهر التعلم , ينصرف كذلك إلى تعزيز الاتجاهات الإيجابية , وتنمية الوعي بالأثر الخلقي لكل تصرف . إن كل ما يقوله المعلم وما يفعله ينطوي على رسائل تؤثر سلبا أو إيجابا على تلاميذه , وهذا يعني أن نطاق مسؤوليته هو من السعة بحيث يتعذر حصره . لذا فإن تطوير ميثاق أخلاقي للمهنة لا ينبغي أن يحد من قدرة المعلم على التصرف و ملاءمة القواعد مع ما يُستجد في الوسط التعليمي من ظواهر و مخالفات. يُضمن الدكتور عفيفي كتابه قائمة بالالتزامات و نماذج للمواثيق الدولية و العربية التي تسعى إلى الارتقاء بالمعايير المهنية للتعليم . وبالنظر إلى ما يعتري المشهد التعليمي ببلادنا من اختلالات سلوكية تسهم و لا شك في تبدل القيم و التأثيرعلى الهوية الثقافية , فلا بأس من استعراض بعض القواعد المحفزة على الارتقاء و التسامي بالواجب الوظيفي خلق فرص أوسع للتعلم : و يقتضي هذا المبدأ إدارة النقاش داخل الفصل في جو ديموقراطي يُنمي قدرة المتعلم على التفكير الحر المستقل و الاعتراض دون خوف .ومن شأن ذلك أن يُحفزه لبذل أقصى طاقته في التعلم مما يُتيح للمعلم نقل عبء متزايد من مسؤولية التعلم إليه . الامتناع عن إعطاء دروس خصوصية : إذا كانت أخلاقيات التعليم تحفظ المكانة الاعتبارية للمعلم فلا يجوز أن تتدهور إلى الحد الذي يستأجرفيه التلميذ مدرسه ويشتري وقته . ولعل من صور الهوان التي لحقت تلك المكانة أن هذه الدروس تخطت حدود العرض إلى ابتزاز أولياء الأمور , و إهدار التناسب القائم سلفا بين النتيجة و الجهد المبذول . الالتزام بمنع الغش و معاقبته : إن التصدي لهذه الآفة من أولويات تخليق بيئة التعلم , فاستفحالها لا يؤدي إلى فقدان الثقة بأمانة النظام التعليمي فحسب , بل ينتج عنه اهتزاز ثقة الفرد في نفسه و في معقولية الارتباط بين الجهد و العائد . أما على المدى الطويل فإن الضرر يلحق المجتمع حين تضج مؤسساته بمُخرجات رديئة تؤدي مهامها بغير جدارة أو استحقاق . المسؤولية المجتمعية عن دقة التقويم : فعدم الدقة في تقييم أداء التلميذ أو تصحيح الامتحانات مخالفة مهنية تترتب عنها آثار جسيمة كالإحساس بالظلم ,و قبول اغتصاب حقوق الآخرين مما يُسهم في إهدار مرامي التربية الأخلاقية و الاستخفاف بقيم العدل و المساواة و الموضوعية . مراعاة السرية : حين يكسب المعلم ثقة تلميذه فإنه مُلزم بالحفاظ على مقومات حياته الشخصية و تفادي العبث بها . ومما يُؤسف له حقا أن تتحول بعض الصفحات الاجتماعية و منتديات الدردشة على الإنترنيت إلى فضاء للتهكم على أعمال التلاميذ المتعثرين و مواقفهم و سلوكياتهم . التزام الإدارة التعليمية بنموذج القيادة المدعم للتشاور و الحوار : فأخلاقيات التعليم تفرض نمطا قياديا منفتحا قوامه تقدير الجهد , و حسن الإصغاء و التوجيه و التفاوض , كما يقتضي تعزيز روح التعاون الإيجابي بين كافة المتدخلين كأساس أخلاقي للعملية التعليمية . روح القانون قبل حرفيته : يُسهم هذا المبدأ الأصيل في خلق مناخ نفسي و تربوي محفز على التعاون و الاحترام و ترشيد الموارد . فإذا كان العقد يوضح التزامات و حقوق الأطراف المتدخلة , فإن روحه , لا حرفيته , هي ما يحفز على إبداع الحلول و البدائل التي تقلل من تكلفة التصدي للانحرافات المستجدة . *** وحده المعلم يصنع المدرسة أو يهدمها . تلك هي الحقيقة التي خلصت إليها مجتمعات راهنت من قبل على المباني و المناهج و الحلول الجاهزة المستوردة ! فمن بين ما يخلص إليه " دون إيبرلي" بعد رصده المميز للتحديات التي يواجهها المجتمع الأمريكي مطلع القرن الحادي و العشرين , أنه ليس في وسع أمة تتجاهل القيم في التعليم أن تأمل البقاء حرة . إلا أن ما يقصده بالتعليم لا يرتبط فقط بتدريس الناس ما لا يعرفونه , بل هو " عمل مضني ومتواصل يجب القيام به باللين و المراقبة و التحذير و التشجيع , و الأهم من ذلك بالاقتداء . ومعنى هذا الأمر عمليا أن علينا تزويد مدارسنا بمعلمين و معلمات ذوي أخلاق يهتمون بمهنتهم و حرفتهم . و عليهم نقل مشاعر الالتزام إلى طلابهم بقوة الشخصية المجردة . ومكانة هؤلاء الناس ليست لغزا , فهم المدرسون الذين يتذكرهم كل واحد منا . المدرسون الذين كان لهم تأثير على حياتنا " (2) حميد بن خيبش 1 د. صديق محمد عفيف : أخلاق المهنة لدى المعلم . منشورات جامعة الدول العربية . 2005. ص41 2 دون .إي . إيبرلي : بناء مجتمع من المواطنين .الأهلية للنشر و التوزيع . عمان 2003 .ص 171