ما الذي أوقع التعليم في الهاوية؟ ألِفنا أن نسمع كلما طلبنا فهم أزمة من أزمات هذا البلد أن الظاهرة معقدة، تتداخل في تركيبها كل الأبعاد: التاريخ والجغرافيا، والسياسة والدين، والاقتصاد والاجتماع، والبيولوجيا والسيميولوجيا...وما تصورتَ من العوامل وما لم تتصور. حتى أصبح القول بالتركيب مدعاةً لكسل فكري أو تلبيسا للحق والحقيقة، فلا يُقلَّدُ مسؤول بمسؤوليته، ولا توضع نقط على حروف. فلا ثمة مسؤول معين يشار إليه بأصبع اليد، ولا هنالك مذنب يرجى القصاص منه. إن هذا الضرب من التحاليل يجمع بين آفتين اثنتين: الإغراق في التعمية والإعفاء من المسؤولية. ولسنا هنا ندعو إلى التسطيح والاختزال وضيق الرؤية، وإنما هي دعوة إلى الحذر من الكلام الذي يأكل بعضه بعضا، والاحتراز من الوقوع في اللغو الذي لا طائل تحته. فلو أنك سألتَ “ما الذي أوقع تعليمنا في الهاوية؟” لانهالت عليك الردود من كل حدب وصوب، وليس العجب حينها من كثرتها، وإنما العجب من تضاربها ونفي بعضها لبعض. فهل تكون الردود حينئذ ؟Paul Ricoeur محاولات للكشف عن درجات في المعنى كما يقول بول ريكور أيًّا ما يكن الأمر فإن التأويل ليس علما كما يقر بذلك ريكور نفسه. ولأن الردود غير قابلة للدحض فهي لذلك ليست علمية كما أوضح كارل بوبر. وإليك الآن بعضا مما يأتيك من أجوبة عن سبب انحطاط التعليم واندحاره: ضعف الموارد البشرية، انعدام التكوين المستمر، اهتراء البنى التحتية وعدم كفاية الموجود منها، ضعف الميزانية المخصصة للقطاع، تردي أوضاع رجل التعليم، استهداف التعليم العمومي، ضرب مجانية التعليم، افتقاد التخطيط على المدى البعيد، رداءة البرامج وتخلف المناهج...إلخ. فأيٌّ من هذه العوامل هو سبب فشل المنظومة التربوية؟ أم يا ترى يكون سبب الفشل العوامل كلها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأيها يحظى بالأولوية؟ أو ما نسبة كل عامل في هذا الفشل الرهيب؟ وبعيدا عن الازدراء بشأن “الفكر المركب” الذي يدعو إليه إدغار موران لسنا نرى العوامل المذكورة أعلاه غير أعراض لأزمة التعليم، وليست بحال أسبابا لها، فمن سمات العرَض أن يزول ولا يزول ما به تلَبَّس، بل هي من الأعراض العامة التي يشترك في معناها أنواع كثيرون. فلو استبدلت بقطاع التعليم قطاع الصحة أو الرياضة أو الثقافة لاشتركت كلها في الأعراض السالفة. فأين خصوصية التعليم المميزة له عن سائر القطاعات، أو خاصَّتُه بلغة المناطقة؟ لنتذكر أولا أن التعليم سلوك إنساني، وكل سلوك إنساني يُفهَمُ من الداخل وليس من الخارج. و من طبيعة السلوك البشري أن يكون غائيا، أي متوجها إلى تحقيق غايات معلومة. فما غايات التعليم عندنا؟ تدُلُّنا المتابعة التاريخية منذ الاستقلال إلى يومنا هذا على تذبذب السياسة التعليمية وضياعها بين غايات متكاثرة، ومتضاربة أحيانا أُخَر، مما يضرنا إلى الإقرار بأن أزمة التعليم المغربي هي أزمة هوية؟ فهذا التعليم في بحث دائم عن هوية ما، ولا أدلَّ على ضياعه وتيهه من افتقاده لأي تخطيط عام يرنو إلى إحداث إصلاح حقيقي يجعل المغرب في مصاف الدول الكبرى. بل إنه ليُخالجُنا الشك حقا في وعي المسؤولين بأهمية التعليم وأولوية الاستثمار في مجاله. أما مؤشرات ضياع المنظومة التربوية فليس أوَّلُها ازدواجية التعليم التي فرضها المستعمر، ثم ازدواجية اللغة التي كانت وما تزال سببا في تكرار التلاميذ وفشلهم الدراسي. ولا آخرُها الإصلاح الذي جاء به ميثاق التربية والتكوين، وحُدِّدَت له عشر سنوات ليستوي على سوقه، فإذا به يُفاجَأُ بمخطط استعجالي قبل أن يُتِمَّ مدته، إقرارا بفشل ذريع وعار لا تمسحه السنون. ومن مؤشرات الضياع القديمة المتجددة سياسة التعريب. فمنذ مؤتمر التعريب الأول الذي انعقد في الرباط سنة 1961م، أجمع المؤتمرون على إحلال “اللغة العربية في التعليم محل اللغات الأجنبية...وإلزام الإدارة بعدم استعمال لغة دون اللغة العربية، والعمل على أن تكون لغة التخاطب اللغة العربية وحدها، والدعاية لها، ومقاومة كل الذين يناهضون لغتهم للتفاهم فيما بينهم بلغة أجنبية...”. فأين مقررات هذا المؤتمر؟ وكيف هي حال اللغة العربية بعد مرور حوالي خمسين سنة على مؤتمرنا هذا؟ وأين هي توصيات المناظرة الوطنية حول التعليم المنعقدة في 1964م؟ إن الأمثلة أعلاه دليل على العشوائية في تدبير قطاع التعليم وافتقاد الرؤية الشاملة لتسيير المنظومة التربوية. فكم من دراسة أُنجِزَت قُبِرَت في مهدها، ورُبَّ مناظرات عُقِدَت عُلِّقَت توصياتها إلى أن يشاء الله رب العالمين. وكان المُأَمَّلُ أن نُراكم التجارب والخبرات، وأن تستفيد دراسات اليوم من نتائج دراسات الأمس. لكن هيهات هيهات. ثم إن عدم ضبط العلاقة ما بين التعليم بما هو تحصيل نظري في عمومه والتكوين المهني لَيَزُجُّ بنظام التعليم برمته في متاهات أخرى. فبإصرارنا على تعليم عمومي نظري يتطلب 12 سنة من عمر المتعلم لكي يحصل على شهادة الباكالوريا فقط، نكون قد لزمنا ما لا يلزم، وأهدرنا جهودا وطاقات كان من الممكن أن تُوَجَّه إلى أعمال ومهن لا تحتاج إلى هذا الزمن كله، ب،بنفقاته واحتياجاته. ذلك أن التعليم النظري الطويل الأمد غير قابل للتعميم بطبعه، لاختلاف الأفهام والمدارك، ولاختلاف الميول والطبائع أيضا. ولا ينبغي أن يُربَطَ هذا التصور بأي دلالة قدحية، ولا أن يُفهَمَ من ذلك الدعوة إلى تعليم طبقي. وإنما هي طبيعة الأشياء ومنطق ضرورات المجتمع وحاجاته. لا يحتاج الأمر إلى جُهد جهيد حتى يتبيَّن تخبُّط نظام التعليم وافتقاده لسياسة واضحة، وأهداف بيِّنة وغايات معلومة، بقدر ما نحتاج إلى صفتين لازمتين: غيرة وجرأة. غيرة على قطاع هو ضامن هوية البلاد والعباد، وشرط نهضتها وعزها، وجرأة لرؤية الواقع كما هو دون تحريف أو تزييف، لمباشرة إصلاح حقيقي بمبادئ راسخة وغايات واضحة. ذ.صادقي عبدالرحيم وجدة سيتي