لحكمة ما كانت معجزة النبي محمد عليه السلام كتابا، وكتابا عربيا مبينا. ولحكمة ما سمي هذا الكتاب بالقرآن – والقرآن من القراءة – فكانت هذه دعوة للمسلمين أن يقبلوا دائما على قراءته والإستماع إليه لتدبر ما فيه من حكم. ولحكمة ما كانت أول آية أنزلت على الرسول من هذا الكتاب هي قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ".[العلق:5] ولحكمة ما أقسم سبحانه وتعالى فيما اقسم به بالقلم. فقال عز من قائل:"ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ".[القلم:1] ولحكمة ما أقسم الله سبحانه وتعالى مرة أخرى بالكتاب فقال عز من قائل: "حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًاعَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ".[الزخرف :3]. وعلى هدى من هذه الآيات الكريمة كانت دعوة الرسول عليه السلام للمسلمين أن يطلبوا العلم في كل وقت وفي كل مكان، فهو القائل :(أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد) وهو القائل:(اطلبوا العلم ولو في الصين)، وزاد فجعل طلب العلم فريضة فقال : (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة). واتصلت الحضارة الإسلامية العربية بغيرها من حضارات الدول المجاورة فأثرت فيها وتأثرت بها، ونشطت حركة التأليف، وظهر من بين المسلمين علماء أعلام من عرب ومستعربين نبغوا في كل فنون العلم وفروعه، وسلاحهم في هذا كله كان شيئين: قلما وكتابا عربيا. وانتشرت مع حركة التأليف والترجمة اللغة العربية فعمت جميع أنحاء العالم الإسلامي بل أصبحت في وقت ما هي لغة العلم والحضارة بحيث كان يجد العالم – أي عالم – نفسه مضطرا إلى تعلم اللغة العربية ليستطيع مسايرة البحث العلمي ومتابعته. ونجحت اللغة العربية في القضاء على كثير من اللغات التي كانت مستعملة في البلاد التي دخلها الإسلام. ولم تمض غير قرون ثلاثة حتى كانت اللغة العربية هي لغة الجميع في العراق والشام ومصر وشمال إفريقيا، وانمحت لغات كثيرة كانت سائدة في هذه البلاد منذ قرون. وليس أدل على قوة اللغة العربية من أن حروفها أصبحت حروف لغات كثيرة ظلت حية قائمة في بعض أجزاء العالم الإسلامي، فأصبحت لغات كثيرة تكتب حتى اليوم بالحروف العربية، وفي مقدمتها اللغة الفارسية واللغة التركية (إلى أن اصطنع مصطفى كمال الحروف اللاتينية) واللغة السواحلية في شرقي إفريقيا، واللغة الاندونيسية إلى أن حلت محلها الحروف اللاتينية منذ سنوات قليلة. ولغة الأردو في الباكستان والهند. والسر في هذا كله هو أن اللغة العربية هي اللغة التي سجل بها علماء المسلمين كل إنتاجهم العلمي والحضاري، وفي كلمة واحدة كان السر في هذا "الكتاب العربي". وبلغ من شغف المسلمين بالكتاب أن أنشأوا الخزانات في كل بلد من بلادهم، وأقبلوا في نهم على اقتناء الكتب بحيث أصبحت المكتبات الخاصة تنافس المكتبات العامة، وبحيث كان طلبة العلم وكبار العلماء يرحلون من أقصى الأرض إلى أدناها سعيا وراء عالم يأخذون عنه أو مدرسة يحضرون دروسها، أو كتاب يطلعون عليه أو يبذلون الغالي والرخيص في سبيل اقتنائه. ونبغ من المسلمين علماء أعلام في كل إقليم وفي كل قطر وفي كل مدينة من مدن العالم الإسلامي، ولاعتزاز المدن بعلمائها، ولاعتزاز العلماء بأوطانهم كانوا ينسبون أنفسهم إلى هذه الأوطان واشتهروا بهذا النسب بحيث أصبحوا يعرفون به ولا يعرفون بأسمائهم، ودارس التراث الإسلامي يعرف هذه الأسماء معرفة أكيدة : الخوارزمي، والرازي، والطبري، والبخاري، والبلخي، والسمرقندي، والخوبي، والهروي، والطوسي، والنيسابوري، والأصفهاني، والقمي، والشيرازي، والبيروني، والفيروزأبادي، والسهروردي، والبيهقي، والدينوري، والفارابي، والبغدادي، والموصلي، والدمشقي، والمقدسي، والبيساني، والنابلسي، والحموي، والشيزري، والسكندري، والسيوطي، والدمياطي، والمصري، والأدفوي، والأسنوي، والطنطاوي، والشرقاوي، والهوريني، والسخاوي، والدسوقي، والجبرتي، والقلقشندي، والتونسي، والتلمساني، والفاسي، والمراكشي، والشنقيطي، والقرطبي، والطرطوشي... إلخ.. إلخ. ولو صنفت هؤلاء جميعا لوجدت منهم المفسرين والمحدثين والمؤرخين والجغرافيين والرحالة والأدباء والشعراء والفلاسفة والأطباء، وعلماء الموسيقى والنبات والكيمياء والفلك والهندسة والجبر والرياضيات بوجه عام. وكان سر عظمة هؤلاء جميعا أنهم ساهموا في إتمام بناء الحضارة الإنسانية، وأنهم أودعوا نتاج أبحاثهم كتبا وكتبا عربية مع أنهم ينتسبون إلى أجناس وبلاد متعددة، فكان منهم التركستاني، والخراساني، والإيراني، والعراقي، والشامي، والمصري، والمغربي، والأندلسي، ولكنهم ألفوا جميعا بالعربية، وأصبح تراثهم الفكري تراثا لكل مسلم أيا كان موطنه، وغير المسلم كذلك، فالمصري يعتز بابن خلدون المغربي والقرطبي الأندلسي اعتزازه بمن نبت في مصر من علماء من أمثال السيوطي والسكندري والدمياطي والأسنوي وغيرهم، والمغربي يعتز بهؤلاء جميعا وبغيرهم من العلماء الشاميين والعراقيين والفرس اعتزازه بمن ظهر في المغرب والأندلس من علماء. فهذا الإنتاج الغني الضخم هو تراث مشترك لكل متكلم بالعربية، كل يعتز به ويعتبره ملكا له وجزءا من حياته لا لشيء إلا أنه كتب بالعربية في كتاب عربي. ومع تيار الإنسانية الذي يسود العالم الآن أصبحنا نرى كل شعوب العالم تقبل على قراءة التراث الفكري العربي ودراسته وترجمة عيونه إلى لغاتهم، فكتب الجاحظ وابن سينا وابن رشد وابن خلدون، وابن شداد، وابن بطوطة والمقريزي وابن ماجد ترجمت إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وهي موضع دراسة في كبريات الجامعات الأوربية والأمريكية والروسية. وتكشف هذه الدراسة للمستعمرين أن سر قوة الدول العربية في الماضي إنما يرجع إلى "كتاب" إلى كتاب عربي مبين. هو القرآن الكريم، بدراسته وبالتعلق به استطاع أي عربي أن يتحدث إلى أي عربي فيفهم عنه ويحس أنه أخوه، فيتألم لألمه ويفرح لفرحه. وقد أدهشت هذه الظاهرة أحد كبار المستعمرين من الفرنسيين فقال قولته المشهورة: "عجيب أمر هذا العالم العربي الإسلامي. إنه كالطبلة إذا ضربت على طرف منها سمعت دوي الضربة في كل طرف من أطرافها". ألا نشعر بالخزي حين نرى كل شعب من شعوب العالم يعتز بلغته فيجعلها لغة العلم والدراسة والكتابة والحديث في البيت والشارع والمحافل الدولية، وتبقى بعض شعوبنا تشكك في قيمة اللغة العربية ومقدرتها ؟! ألا نشعر بالخزي حين نسمع أن دويلة إسرائيل قد أحيت اللغة العبرانية الميتة التي لا يعرفها إلا الإسرائيليون وجعلتها لغة التعليم في جميع مدارسها وجامعاتها في حين بقيت بعض الدول العربية تتردد في استعمال اللغة العربية كلغة تعليم، وكلما خطت في هذا السبيل خطوة تراجعت خطوات ؟! وبعد، لقد كان الكتاب العربي سلاحنا القوي للوحدة في الماضي فما أحراه أن يكون سلاحنا للوحدة في المستقبل. والله الموفق 18/11/2013 محمد الشودري