بداية، لا نعرف كيف نمتلك الجرأة لكي ننظر في عينيك، ونحن الذين أجْرمنا في حقك كل هذه الأشهر التي مرت، وخرجنا في مظاهرات حاشدة نطالب فيها بسقوطك. يا لنا من مجانين.. كنا نطالب بشيء غريب حقا، فكيف نطالب بسقوطك وأنت قطعة منا؟ وكيف نجرؤ على نفيك وأنت أوكسيجيننا ودمنا؟ أيها الفساد العزيز، اليوم، نريدك فقط أن تكون متفهما، لا نطمح إلى أن تسامحنا تماما، لكن فقط اعذر حمقنا وبلادتنا، واغفر زلاتنا حينما رفعنا شعار: الشعب يريد.. إسقاط الفساد. نعترف لك، ورؤوسنا منكسة، أننا لم نكن في كامل قوانا العقلية ونحن نردد ذلك الشعار البليد، فالشعب لا مشكلة له إطلاقا معك، وأنت مذْ كنت أحسسنا بأنك توأم روحنا وملح حياتنا، فكيف نطالب بإسقاطك وأنت تاج رؤوسنا؟ ومن دونك ستبقى رؤوسنا عارية يأكل من فوقها الطير، يا لخجلنا وعارنا.. فسادنا المبجّل. منذ ذلك اليوم المشؤوم، يوم العشرين من فبراير من سنة 2011 ميلادية، الموافقة ل1432 هجرية، قلنا فيك ما لم يقله مالك في الخمر، وشتمناك بمصطلحات لم يستعملها لا جرير ولا الفرزدق، وبذّرنا في سبيلك الكثير من المداد والورق وأثواب اللافتات، وبُحّتْ أصواتنا ونحن نسير في كل شارع وكل درب، وكأننا نملك خاتم سليمان، أو كأننا سنهتف ضدك اليوم فتسقط غدا. كنا أطفالا أغرارا، فلا تغتظ من حماقات أبنائك، وكنْ لنا بعد اليوم بمثابة الوالد النصوح الحنون. من سقطوا هم نحن، أيها الفساد العظيم، لأننا بعد كل ذلك الهتاف والصراخ، وجدْنا أن كل ما حدث هو أننا فقدنا أصواتنا، وأصيب أغلبنا ببحّة في الصوت وضيق في التنفس، واكتشفنا أن أكبر الرابحين في تلك المظاهرات هم الأطباء وأصحاب الصيدليات. حبيبنا الفساد: اليوم، ونحن نقدم إليك فروض الاعتذار الممزوج بخالص تعابير المحبة، نريد أن نعترف لك بشيء خطير، وهو أننا لم نخرج ضدك من تلقاء أنفسنا، بل إن ألسنة السوء هي التي أوقعت بيننا وبينك، حيث قيل لنا إنك المسؤول عن كل الكوارث التي تعرفها البلاد منذ ما يسمى الاستقلال إلى اليوم، وإنك خرّبت الصحة والتعليم والإدارات والمؤسسات، وكلما مررت على صندوق أو ميزانية إلا وحوّلتها إلى يباب. ألسنة السوء والمكر هي التي قالت لنا أيضا إنك المسؤول عن تفشي الرشوة، وهذا والله لحيف عظيم، إذ كيف يحمّلونك هذا الوزْر بينما أفقر مواطن فينا يذهب إلى أحقر إدارة فيمد يده إلى جيبه مباشرة لكي ينفح الموظف بعشرين أو خمسين درهما. هل أنت الذي تضع المسدس على رؤوسنا وتقول لنا: ادفعوا الرشوة؟ فسادنا المجيد، كنا حمقى تافهين حين قرّعْنا علماء الدين، وقلنا ما لهؤلاء لا يقفون جنبا إلى جنب مع الشعب، وكنا في ذلك واهمين، لأنهم كانوا دائما إلى جانب قضايا الشعب المصيرية، ومفتونين بأشيائه الحميمية، وها هو أحد علمائنا الصناديد قام بثورة لوحده حين خفّف العبء عن ملايين المغاربة، فأفتى بجواز مضاجعة الزوجة الميتة وأباح استعمال القنينة والجزرة للمطلقة والعازبة، ثم جاء بعده عالم من أطيب خلق البرية، فأفتى بأن الصبر على الظلم مزيّة، بل وفيه -أكثر من ذلك- أجر عظيم ودرء للبليّة. من هو، إذن، هذا الأرذل ابن الأرذل الذي أدخل في رؤوسنا مذْ وعينا أن الثورة على الظلم قيمة إنسانية بهيّة؟ لو وجدناه اليوم لقطعْناه أطرافا وقدمناه إليك قربانا وهدية. إننا أيها الفساد نحبك محبة خالصة لا نبغي من ورائها جزاء ولا شكورا، والدليل على ذلك أنه بعدما دار الحوْل على مظاهراتنا، عدْنا إلى قواعدنا سالمين غانمين، وهناك من كان يسير في المظاهرات ضدك ويعتبرك العدو المبين، فصار لك اليوم نعْم الصديق الحميم. فسادنا الأعظم، ها هي خدودنا ملك يمينك ويسارك، اضرب الخد الأيمن فنعطيك الأيسر، ثم اضرب بعصاك ولن تجد من أظهرنا سوى كلمة «آمين»، ونُقْسم لك بالجبار الذي رفع السماء بلا عمد، وبالمنّان الذي رزق الطير والوحش بالماء والمدد، أننا لن نعود إلى نطق حرف يخدش صيتك، ولن نرفع سبابة ضدك. خذ هذا وعدا صادقا منا، وعشْ فينا كريما عزيزا مرفوع الشّأن والهامة إلى يوم القيامة.