أولا : قوة الإرادة وضعف وسوسة الشيطان حينما يطرح الإسلام مبدأ الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإنه في الحقيقة يؤسس لأحد أهم الأركان الرئيسية في منهج معرفة النفس ،وذلك بفتح المجال لملاحظة النفس على مستوى الاستبطان الجلي المباشر ودون أن تكون حركاتها وانفعالاتها متأثرة بعنصر خارجي غير مستقر ومضاد أو مناقض لسلامتها وفطرتها الغريزية. ولما أقول "مستقر" فإنني أؤسس تعبيري على نص قرآني يبين لنا بأن الشيطان في تلبسه بالنفس الإنسانية ليس بعنصر فعال ومؤثر موضوعي وإنما هو مجرد مشوش وهمي و مخذل لها إن هي تواطأت معه في ابتداء توجهها وانجرف معها العنصر الواعي المستنير في الإنسان،أي العقل … وهذا التواطؤ قد لا يكون إلا عن طريق الكيد أو المكايدة،ومن النوع الضعيف كما دل عليه قول الله تعالى:"الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت،فقاتلوا أولياء الشيطان،إن كيد الشيطان كان ضعيفا"[1].وقوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام :"يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا"[2]،"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين"[3]. لكنه رغم ضعف الشيطان و كيده التوهيمي فقد استطاع أن يضلل الكثير من الناس ويوقعهم في حبائله عن طريق الضرب على وتر نفسي ألا وهو:" التغرير بالأمل والأمنية والحرص" الذي تميل إليه النفس الإنسانية بالغريزة الصماء وبحكم الحاجة المطلقة. يقول الله تعالى:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء،ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا، إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من وعبادك نصيبا مفروضا، ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام،ولآمرنهم فليغيرن خلق الله،ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا،يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا"[4]. فهذه هي أهم صور الكيد الشيطاني للإيقاع بالكائن الإنساني وذلك بالضرب على الوتر النفساني،من باب التقرير والوعد الكاذب والأماني. وحينما يعجز الشيطان عن التغرير المباشر ذي البعد العقدي السفهي فإنه قد يلجأ إلى التغرير بالأماني الشهوانية والضرب على أوتارها، تمهيدا لإخلال التوازن ،مثلما هو الشأن في حالة الغضب كانفعال ذاتي بسبب داخلي. لكنه هذه المرة سيكون انفعالا ذاتيا له سبب خارجي مفتعل،وذلك للتغرير بأساليب ووسائل كلها قد تضرب في الطاقة الواعية للإنسان،وحينما يختل الوعي الإنساني فسيجد الشيطان فرصته لافتراس الضعيف من الناس ،ضعفا نفسيا وإدراكيا غير متحصن بنور إيماني. ولهذا فقد جاء التحذير القرآني دقيقا وصريحا في الموضوع يقول الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون،إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون"[5]. و في هاتين الآيتين تتضح العناصر الجملية للمنهج القرآني في الحفاظ على التوازن النفسي بصرف الإنسان عن تعاطي المخلات بالإدراك،سواء كان المخل سببا ذاتيا أم موضوعيا خارجيا،لأن الخمر قد يمثل وسيلة ملموسة لإخلال التوازن،إذ الشرب هو إضافة موضوع حسي ملموس سيعمل في الشرايين والدماغ وأنسجة التفكير والصحو عمله بالإخلال والمخامرة وإفقاد التمييز. وأما الميسر والأنصاب والأزلام فهي وسائل غير مباشرة قد تستفز الأعصاب وتستثيرها عن طريق الغضب والحسد وتكريس العداوة بسبب الخسارة. وكل هذه المقدمات ستؤدي في النهاية إلى ما يؤول إليه الخمر من إخلال للتوازن والارتماء في أحضان الشيطان الذي ليس له من غاية سوى الصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وهنا قد يتبين الفرق بين الأمر النفسي والأمر الشيطاني،إذ الأول يمثل اندفاعا غريزيا نحو الإشباع الذاتي والاستجابة المفرطة لطبيعة الشهوة والغضب في تركيب الإنسان،أما الثاني فهو كيد عن طريق تأجيج ذلك الاندفاع الغريزي للإيقاع في القنوط أو الاختلال التمييزي مما يسهل معه التشويش على التصور السليم وفتح المجال للسفه العقدي الذي هو أقصى غايات الشيطان لعنه الله . ثانيا: الانتهازية الشيطانية وعقدة الشعور بالنقص المصيري ويصور لنا القرآن الكريم هذه الانتهازية الشيطانية في حالة الضعف الإنساني أمام غرائزه واستغلاله له استغلالا خطيرا حتى قد تنقلب التصورات الوهمية إلى يقينيات مما سيكون معه السفه العقدي والخلل المعرفي والاضطراب الحكمي، وذلك في أبلغ وأعمق صورة سيربط فيها بين الجانب النفسي والجانب الشيطاني في أثره على السلوك الإنساني. يقول الله تعالى:"واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين،ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه،فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا،فاقصص القصص لعلهم يتفكرون، ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون"[6]. فالشيطان ليست له من غاية سوى إفساد العنصر الإنساني بالإيقاع به في شباك الرذيلة كوسيلة فقط، حتى يتسنى له الإخلال بنفسيته ثم سلخه عن عقيدته الصحيحة والإيقاع به في الكفر الذي قد يعني هلاكه الأبدي، بحيث سيصبح الإنسان والشيطان في مستوى واحد من الضياع والخسران الأبدي. ولهذا فبمجرد ما يحصل الشيطان على بغيته هاته حتى يتركه في حال سبيله ، لأنه قد أوقعه فيما لا أمل له في إصلاحه ألا وهو الكفر بالله سبحانه وتعالى ،وإذاك سيصبح الإنسان بدوره شيطانا لأنه صار مطرودا من رحمة الله تعالى. وفي هذا يقول الله تعالى :"كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر. فلما كفر قال:إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين،فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين"[7]. وهذا يؤسس لقاعدة :"الناقص لا يستأنس إلا بالناقص ويتمنى أن يكون الكل على شاكلته ".فالشيطان ناقص بهلاكه وخسرانه ومن ثم فهو قد لا يهدأ له بال ولا يرتاح حتى يوقع الإنسان في نفس ما وقع فيه و الذي كان سبب خسرانه. أمام هذا التخذيل الذي يمارسه الشيطان سيأتي النداء القرآني لتثبيت الإنسان وسد الذريعة عليه حتى لا يجد وليجة لتقنيطه بسبب أخطاء النفس الأمارة بالسوء في جوانبها الغريزية المحضة من شهوة وغضب وما إلى ذلك ، مما لا علاقة له بالجانب العقدي إلا على سبيل الاستدراك والمكايدة الشيطانية. فنجد قول الله تعالى:"قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم"[8]،"وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا "[9]. "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به،ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم،ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"[10]. فهذه كلها وسائل علاجية وأسلحة يوفرها الإسلام للإنسان المؤهل لمجابهة الشيطان والحيلولة دون تسربه إلى عمق النفس وأخذ زمام المبادرة بقيادتها والإخلال بالعنصر الواعي في كيانه. وهذه الأسلحة تتأسس أولا وأخيرا على المرتكز العقدي، الذي بواسطته لا يستطيع الشيطان أن يؤثر على النفس أو يزيد في تأجيجها بإثارة غرائزها بالوسوسة والتسويل كوسائل للمكايدة والاستدراج إلى الإيقاع بها في خبط وصرع سيرمي بصاحبه بعد ذلك في أحضان الشيطان كنتيجة حتمية للقنوط وضيق الأفق الفكري والتصوري. ولقد دل القرآن على أن الغاية القصوى في الوسوسة عند الشيطان هي صرف الإنسان عن الله،وذلك بإلهائه عن ذكره، عندئذ سيبقى المجال مفتوحا له كي يلعب بخياله حسب خطته ومكيدته التي يهدف إليها. ولهذا جاء التحذير القرآني من عاقبة فسح المجال للشيطان لأخذ المبادرة إلى التشويش،وذلك من خلال صرفه عن ذكر الله تعالى، ويتجلى ذلك في قول الله تعالى:"ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين،وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءانا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون"[11]،"استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون "[12]. فهذه الآيات توضح لنا كيف أن وظيفة الشيطان تتحدد في حالة الفراغ عند الإنسان الذي هو نتيجة صرف الفطرة عن غذائها الأصلي ومصدر قوتها واستبصارها، وأن سلاح الذكر في الإسلام هو المهد لكل المخططات الكيدية الشيطانية. وذلك لأن الذكر حق ووسوسة الشيطان باطل،والباطل زاهق،لأنه غير مستقر ولا ثابت.ومن هنا فقد شرع الإسلام ذكر الله في كل الأحايين والأحوال وفي كل الأعمال ابتداء وانتهاء للحيلولة دون اختلاطها بوسوسة أو تشويش شيطاني الذي قد يصرفها عن الإخلاص والمتانة البنيوية والوظيفية. فذكر الله والاستعاذة به من الشيطان الرجيم قد يعتبر أحد أهم العناصر المنهجية لمعرفة النفس معرفة صحيحة وخالية من الوهم الخارجي والتوهم الذاتي،وذلك لأن طرد الشيطان من دائرة النفس وصرف وسوسته عنها سوف لن يبقى بعده إلا الإنسان ونفسه. وإذا انفرد الإنسان بنفسه فإنه حينئذ سيكون حكمه على ظواهرها وأفعالها من باب الملاحظة الداخلية المباشرة وبمنظار سليم استبطاني مستوعب لجوانبها الغريزية وأبعاد حديثها ووسوستها. ففي حالة تغييب هذا العنصر وهو ذكر الله تعالى من وعي الإنسان فإنه حينئذ لن يصل إلى معرفة نفسه مهما ادعى إمكانية ذلك.لأنه ستختلط عليه الأوراق فلا يكاد يميز بين وسوسة النفس ووسوسة الشيطان و تسويل النفس وأمرها بالسوء وما إلى ذلك من الظواهر التي قد تتطابق فيها وظيفة النفس ووظيفة الشيطان مع فارق الأهداف طبعا.إذ النفس هدفها الابتدائي هو إشباع غريزي مفرط لا غير، بينما هدف الشيطان دائما هو الإيقاع بالإنسان في سفه عقدي متطرف قد يكون مآله الهلاك الأبدي. يقول الله تعالى حكاية عن غاية إبليس – لعنه الله – وجموحه التضليلي:"قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.قال هذا صراط على مستقيم،إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين"[13]. فهدف الشيطان قد يتحقق من خلال إخلال التمييز المستنير عند الإنسان مما يغيب معه الوعي بالنفس وضبط قواها وحركاتها،بحيث ينسى الإنسان ذاته لأنه نسي مصدر وعيه وهو ذكر الله تعالى، الوسيلة الوحيدة لطرد الشيطان وهلوساته. يقول الله تعالى:"يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون. ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون"[14]. ومن هنا كان طرح موضوع الشيطان في مجال معرفة النفس بجانب ظاهرة النفس الأمارة بالسوء يعتبر مهما جدا وضروريا كأداة منهجية تتحدد من خلالها الظواهر النفسية الخالصة ،وتتبين به المؤثرات الداخلية الذاتية والمؤثرات شبه الداخلية غير المرئية ،والمؤثرات من الخارجية الموضوعية و الخارجية شبه الموضوعية. كما أنه من خلال هذا الطرح المتكامل بين النفس الأمارة بالسوء والشيطان الموسوس بنفس السوء سيجعل للإنسان القدرة على تحديد الشعوري من غير الشعوري في نفسه مع إدراك خلفية كلتا الحالتين النفسيتين وأبعادهما السلوكية والعقدية كما سنرى. [1] سورة النساء آية 75 [2] سورة يوسف آية 5 [3] سورة آل عمران آية 175 [4] سورة النساء آية 115-119 [5] سورة المائدة آية 91 [6] سورة الأعراف آية 175-177 [7] سورة الحشر آية 16-17 [8] سورة الزمر آية 50 [9] سورة الإسراء آية53 [10] سورة النساء آية 95 [11] سورة الزخرف آية 35-38 [12] سورة المجادلة آية 19 [13] سورة الحجر آية 39-42