تقنية التوزيع وعملية الربط من الأسس التي نظمت وهيكلة المجال الحضري العتيق: بعد أن امتلأت جنبات المدينة بالمباني ذات وجهات وظائفية متباينة، ظهرت شبكة التوزيع قد نفذت إلى كل أرجائها، وكان ذلك عبر نظام توزيع أقيم على أسس متينة ولأهداف سليمة ووفق أعراف وقواعد متماسكة ضمنت لها حسن التدبير لقرون عديدة، وحافظ للماء نقاوته وطهارته طيلة هذه المدة الزمنية، وكل ذلك ساعد على تنظيم الحياة الحضرية وهيكلتها. وتعتبر تقنية التوزيع إحدى هذه الأسس، وذلك أن بنية الشبكة تتكون من مجموعة من الخطوط/القنوات الممتدة بين المنابع المائية وأخر مستهلك. كل خط يعمل في الغالب مستقلا عن الآخر وتزود منه مجموعة من المستفيدين (منازل ومرافق عمومية). وطريقة الاستفادة لا تتم بغرف الماء مباشرة من مجراه، بل عبر تقنية في منتهى الدقة، وذلك أنه روعي فيها مجموعة من العوامل الطبغرافية والاقتصادية والصحية… وتوضيحاً لذلك نشير، بشكل عام، إلى أن الميا تجمع عند منابعها في صهاريج أعدت خصيصا لها ثم يتم إمرارها عبر مجموعة من المحطات قبل أن تصل إلى المستهلك. فمباشرة عند تجميعها في الصهاريج تخضع لأولى عمليات المعالجة وذلك بقصد إزالة المواد العالقة المحتملة عن إمرارها في ثلاث أنابيب عمودية، تتصل فيما بينها من جهة الأعلى، ويمر الماء فيها بالتتابع وبما يسمح بترسيب المواد العالقة الممكن وجودها بها، بحيث تصل إلى الأنبوب الثالث أكثر نقاء، وبالإضافة إلى المعالجة الذاتية هذه، كان الماء يخضع من حين لآخر، وفي عدة محطات، لمعالجة مستمرة بواسطة استعمال مواد محددة أهمها الجير، بالشكل الذي پناسب ويتلاءم مع صبيب الماء المعبا فيقناة/ خط ما. وانطلاقا من حوض تجميع المياه (الصندوق) كانت تتم أولى عمليات التوزيع -إذا كان الصبيب يسمح بذلك عبر قنوات خطوط رئيسية نحو معدات القسمة، ومن هذه توزع المياه من جديد على مجموعة من القنوات الثانوية التي توزع المياه على المستهلكين بواسطة "الطوالع التي أقيمت على نفس خط المياه ومن هذه الأخيرة تنساب المياه إلى المعدات الخاصة بوحدات الاستهلاك، وما فاض عن كل الاستعمالات يصرف خارج الخط فيما يسمى بالعقدة أو بحنفية عمومية (قنا)، أو بمعدات المياه الجارية (وتسمى كذلك بمعدات الفيض)، أو بالميضأت العمومية…وإن كانت خطوط المياه في كثير منها تنتهي بقنا" أو بإحدى المرافق الاجتماعية الأكثر استعمالا للماء كالحمامات والمساجد لتتم الاستفادة من مياه الفيض بأحسن طريقة. إن عملية توزيع المياه علي محلات الاستعمال لم تكن اعتباطيا، بل كانت تخضع لتقنية دقيقة. وذلك أن القناوين (وهم عادة من معلمي البناء أو لهم صلة بهذا القطاع) هم الذين كانوا يقومون بعمليات إيصال والربط بعد التأكد من الحظ (السهم) المراد إيصاله أو إجراؤه بمحل ما، فكانوا يقيمون نوع المعدة والمشرب ثم يستعينون بإحدى القطع النقدية (من عملة زمانهم) الملائمة للحظ المشترى من الماء ويحددون مستوى ارتفاع الثقب في المشرب بعد الاطلاع على كل الحيثياث (طبغرافية المكان في علاقتها مع مثيلاتها على طول الخط، وصبيب الماء المنساب في القناة، وكذا قوته الاندفاعية داخلها…ثم يحدثون الثقب المناسب في المشرب المعني. إن اختلاف الحظوظ المشترات أملى على القناوين منذ البداية استعمال قطع نقدية متباينة الأقطار، ولكنها من نفس المعدن، وكانت في معظمها من الفضة. فكل حظ يفتح له ثقبا من قطر قطعة نقدية معينة يسمح بإمرار الماء إلى المحل المعني. وقد لعب نظام "السكوندو" دورا حاسما في تثبيت الهياكل الاجتماعية والاقتصادية، بحيث وفر لها المياه اللازمة لتحريكها وتشغيلها. وهكذا نجد أن مياه هذا المصدر كانت تفي بما فيه الكفاية لجل المؤسسات الدينية والتي تجاوز عددها 60 وحدة، ووفرت الكميات الضرورية لأغلب الحمامات (وعددها يفوق 11 وحدة)، وجل الفنادق التقليدية (حوالي 30 مؤسسة)، والحنفيات والميضات العمومية ودور الدباغة وأنشطة حرفية أخرى، بالإضافة إلى الاستهلاك الأسري. هذه الاستعمالات كلها، إلى جانب أخرى، تبين أهمية صبيب مياه نظام "السكوندو". فوفرة المياه وحسن التدبير اعتبرتا وسيلة فعالة لاستقرار العنصر البشري داخل المدينة والتمسك بالمجال ومكوناته. إن الحديث عن هيكلة مجال المدينة في علاقتها مع إقامة نظام "السكوندو" يقتضي التطرق إلى بعض عناصر التقويم والتنظيم المتصلة بهذا النظام من أعراف وقواعد متفق عليها. ذلك أن إقامة الشبكة أو مد أجزاء منها أو تحويل حظ ماء ما من جهة لأخرى كانت تخضع لاختبارات واستشارات للتأكد من إمكانيات الفعل أو استحالته. فكتابة مؤرخي تطوان مثلا تشير إلى جوانب من ذلك، فالفقيه الرهوني يقول إن: "لأهل المدينة في ذلك قوانين متبعة وقواعد مرعية مؤسسة على نصوص شرعية يرجع فيها عند النزاع لقضاة الشرع الإسلامي الذين يفصلون فيها بالحكم النهائي الذي لا يبقي لأحد فيه نزاع" (أحمد الرهوني، الجزء ا، ص 149). ويشير المؤرخ محمد داود في حديث له عن إقامة خطوط شبكة "السكوندو" والتصريف الصحي داخل المدينة العتيقة إلى أنه: "من المعلوم أن جل تلك الشوارع قد مدت تحتها أنابيب فخارية يجري فيها الماء الذي يدخل المساجد والدور، كما تقع في الكثير من مجاري المياه المستعملة التي قد تدعو الضرورة لإصلاحها في بعض الأحيان فيسهل قلع تلك الحجارة وإصلاح الأنابيب التي تحتها مع إرجاع تلك الحجارة لحالتها الأولى تماما دون أن يشوه منظر الشارع… (محمد داود، المجلد الأول ص. 112). كما ان الرسوم العدلية المتضمنة لموضوع الماء بهذا المجال كان يثبت فيها دائما، بطريقة أو بأخرى، أمر الحفاظ على البيئة العامة أثناء إنجاز الأعمال أو الأشغال التي تمس المشهد الحضري – ضاقت حدوده أم رحبت. ونقرأ في بعض هذه الرسوم: "…فإن العرف الجاري في هذه البلدة التطوانية منذ أزمان أن من أراد إمرار الماء في محمل القواديس بزنقة نافذة لا يمنع من ذلك إذ لا إضرار فيه على أحد من أهلها فإن تعرض له في إمراره عمل آخر فإنه يمره كيفما أمكنه ذلك، إما بجنبه أو تحته أو فوقه، فإن حدث بسبب إمراره تكسر في العمل…أو شق أو نحو ذلك فيصلحه هذا الممر له ويرد الزنقة كما كانت.هذا هو العرف المعروف والشأن المعهود المألوف…" (رسم عدلي يحمل تاريخ 1311 هجرية). فالنصوص السابقة تشير إلى نوع من الالتزام الجماعي لدى السكان في الحفاظ والسهر على حسن تدبير وتسيير هذه الشبكة، ومن خلالها المجال الحضري. وفي كل ذلك نوع من التربية المدنية، والتأكيد على أن الحياة الاجتماعية والروحية والاقتصادية…انتظمت حول عنصر الماء في ترابط وتناسق متينين ووظفت هذا العنصر في كل مناحي الحياة. الكتاب: المدينة العتيقة في تطوان "دليل معماري" (بريس تطوان) يتبع..