تنسب للشيخ سيدي محمد الحراق بتطاوين التي جاءها من فاس بعد أن بزغ فيها ليكون خطيبا بجامع حومة العيون، ومدرسا للعلوم بالجامع الأعظم للمدينة، وقد اشتغل قبل أن يصير شيخا صوفيا وعالما ربانيا بالافتاء والنوازل الفقهية، غير أن محنته مع خصومه خلص به إلى طريق التصوف. إن نبوغ الشيخ محمد الحراق قد استثار حقد وحسد أهل حومة العيون الذين استطاعوا تنحيته و لم يقدروا على عزله، خاصة وأن السلطان مولاي سليمان من أوفده إلى تطاوين، فما كان لهم إلا أن دبروا له مكيدة، وإن يكن السلطان قد كشف المناورة فقد عزل الحراق عن الإمامة وأبقى خطته في التدريس، فكان وقع العزل قويا على الشيخ سيدي محمد الحراق، ومرض مرضا شديدا فقال: " والله لئن عافاني الله لأدخلن في طريق القوم"، فرغب في التصوف واتصل بالشيخ مولاي العربي الدرقاوي. لكنه رغم علمه الغزير ومعرفته الواسعة وتتلمذ عدد من علماء فاس له، فإنه لم يتتلمذ له أحد من مشاهير علماء تطوان، بل كان أصحابه بها من العامة و الأعيان. وكان يقول: " والله لو كنت أساوي في تطوان قيمة بصلة أو فلسا لما أويت إليها واستقررت لديها. وروي عنه أنه سئل عن سبب حبه للمقام بتطوان، فقال إنه وجد فيها ما لم يجده في غيرها من الراحة لأن أهلها في غنى (عنه) يعني أنه كان فيها حامل الذكر مجهول القدر". ولعل في تأمل دخول الشيخ محمد الحراق في الطريقة الدرقاوية ما يشي بالغرائبية، إذ تزامنت رغبته في التصوف مع قدوم مولاي العربي الدرقاوي إلى تحساس بغمارة للتعزية في وفاة تلميذه الشيخ البوزيدي، فجاءته دابة مسرجة من غمارة: " جادة في سيرها موفقة في قصدها إلى أن ألقت عصاها واستقر بها نواها إزاء دار الشيخ الجراق"، فركب عليها وقصد الشيخ الدرقاوي إلى غمارة حيث لقنه الأوراد وأذن له في التربية والتلقين. وإذا كان الشيخ محمد الحراق يدرك أن الوقت قد حان في هذا العصر لإعادة النظر فيخرق العوائد التي كان ينتهجها الشيخ ابن عجيبة. فكان لا بد من التخفيف عن المريدين نظرا لشدة وطأة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، وضغطها على الإنسان المغربي في هذا العصر. إن ذلك هو ما جعل الزاوية تتغلغل في المجتمع التطواني، بل مهد لها كي تستقل بموقفها عن الزوايا الدرقاوية، خاصة أثناء فتنة فاس (1820-1822). حيث رفض محمد الحراق التوقيع على بيعة مولاي ابراهيم، وأعلن ولاءه المطلق لمولاي سليمان باعتباره سلطة شرعية. حتى أن باشا تطوان محمد أشعاش الذي كان يعمل بما يمليه عليه طبع الاستبداد لا يكاد يقطع أمرا دون استشارة الشيخ. ويعتبر كتاب الزاوية للتهامي الوزاني من المصادر الأساسية التي أرخت لهذه الزاوية وعرفت بها خصوصا في عهد شيخها إدريس الحراق حيث عرفت كيف تجلب إليها أقواما من جميع المستويات وذلك بفضل الموسيقى والطرب. فقد كانت لشيخها محبة في الموسيقى وشغف بالطرب، وكان من بين شيعته جماعة من المطربين يقوم بإعالتهم، فاشتهرت زاويته دون باقي الزوايا بالغناء حتى أصبحت مدرسة فعلية لذلك، واجتمعت لدى الزاوية آلات تعد بالعشرات لأن الناس بعد فرض الحماية وأيام الحرب العظمى عمهم الحزن والكدر، فتفرقت بجامع اللهو والانشراح ، وقام أغلبهم ببيع آلالات لهوه وطربه . وأصبحت الزاوية الحراقية تعرف انتعاشا بعد فترة ركود، وصارت تعج بالأتباع والمعجبين بالسماع، وقد رسم لنا العلامة التهامي الوزاني صورا تظهر أهمية الموسيقى فيها وما بذلت من جهود في سبيل تطويرها، فقال: " الزاوية الحراقية ليس فيها بيوت للخلوات ولا ما يلائم حياة العزلة والانقطاع، وإنما بما غرفتان للضيوف ولاجتماع الفقراء على المذاكرة وسماع الموسيقى وشرب أكواب الشاي المعنبر… وشغل الملازمين من الفقراء إما بحفظ قصيدة من كلام أعيان القوم أو تعلم دورا من أدوار الغناء". أما الذين انتموا إليها ممن أخذوا حظا من التعليم كانوا يتدارسون بها كتب القوم (الصوفية) ولا سيما كتب ابن العربي، ويتعمقون في أسرار التصوف، محاولين استبطان مغازي الاصطلاحات الصوفية في الأحوال و المقامات. ولا ريب أن فيما وصف به التهامي الوزاني الزاوية الحراقية في مطلع القرن العشرين ما ينم عن حياة البذخ التي أصبحت تعرفها الطريقة الدرقاوية: ( من طرب وكؤوس البلور والثريات الكهربائية وأقفاص الأطيار المغردة …). ولكن دون أن تمنعها هذه الحياة من إفساح المجال للطبقة الشعبية الفقيرة والمتوسطة. خلافا لما هو معروف بين أتباع الطريقة الريسونية مثلا. ولهذا كان شيخها المذكور دائم التذكير بأفضلية زاويته التي تجمع الفقراء على الذكر والتذكير والطعام في حين أن الزوايا الأخرى كان فقراؤها لا يذكرون زواياهم إلا عند الفراغ من أشغال. إلا أن انقطاع الزاوية و عدم الاهتمام سوى بشؤونها الخاصة وقضاء مصالح روادها سوف يكون له أكبر الأثر في تقلص نفوذها حيث سيدير أغلب الأتباع ظهورهم لمجالس السماع. العنوان: فهارس علماء تطوان (تطوان من خلال كتب التراجم والطبقات) للمؤلف: الوهابي منشورات باب الحكمة (بريس تطوان) يتبع...