وصف المحمد بنونة مسار الرحلة وصفا دقيقا، مما يعطينا صورة واضحة عن الشدائد التي كان يقاسيها الطلاب أثناء رحلاتهم العلمية إلى فاس، لغياب طريق معبدة بين تطوانوفاس ، ووعورة مسالكها الجبلية، يزيد من شدة خطورتها امتلاؤها بالأوحال في فصل الشتاء، مما يجعل مدة السفر تطول إلى عدة أسابيع عوض ثمانية أيام كما جرت العادة. وكان بإمكان الركب أن يتجنب المسير في هذه المسالك الوعرة، ويستعمل وسائل أخرى أكثر راحة وأمانا وأقل وقتا وجهدا وهو القطار الحديدي والمراكب البحرية التي كانت متوفرة في تلك الفترة، لكن رغبة الأب في أن يبث في ابنه الروح الوطنية ويذكيها، ويجعله يتعرف على مناطق مختلفة من بلاده هي التي كانت وراء ذلك، يقول المحمد بنونة: " أن نسافر في البر، لنعرف المغرب ونعرف الطرق، وقال إن هذه الرحلة بهذا الشكل ستنتهي بعدما تتصل مدن المغرب بالسكك الحديدية". وقد آثر أفراد من الركب أن يختاروا وسائل النقل الأكثر راحة وأمانا، وقرروا أن يسافروا عن طريق القطار بعد أن يسافروا من طنجة إلى الدارابيضاء بالباخرة، وهم: عبد الرحمان اليعقوبي، والفقيه الكحاك، ومصطفى ابن المفتي. لتصبح القافلة مكونة فقط من السيد محمد ووالدته للاقامة، والفقيه طنانة، و علي الذهبي وكاتبه، والحاج محمد بايسف صاحب الدواب وأتباعه. وكان مسار الركب كما يلى: * الانطلاقة: يوم الاثنين 15 ربيع الاول عام (1338ه/ موافق 7 دجنبر 1919م) من باب التوت مرورا بواد سمسة وواد السوير واللوزين وقنطرة بوصفيحة وواد أكراز الذي استراح فيه الركب للغداء، ولما فرغوا في ظرف قصير ركبوا واستأنفوا السير، وابتدؤا بالصعود في عقبة كؤود قاصدين فندق عين الجديدة. * يوم الثلاثاء 16 ربيع الأول (1338ه/8دجنبر 1919م): كانت الوجهة مدينة القصر الكبير، فاستأنف الركب المسير إلى أن وصل إلى نزالة تسمى تزمرت على الساعة الثالثة والنصف وهناك قرر التوقف والمبيت . * يوم الأربعاء17ربيع الأول (1338ه/9دجنبر 1919م): كان هذا اليوم صعبا وقاسيا على الركب لوعورة الطريق وخطورة المسالك الجبلية بين تطوان والقصر وخصوصا عندما وصلوا لمنطقة تسمى خناق جبل الحبيب ، يقول امحمد بنونة: "فدخلنا بين جبلين ونحن ننحدر بينهما كأننا نقطع الصراط. وما سمي خناقا حتى كان يخنق الإنسان بوعورته". ولم تنتهي معاناتهم إلا حين وصلوا إلى عزيب الشعشوع في الساعة الرابعة والنصف فاستضافهم صاحبه بالترحاب وحفاوة بالغين، فقضوا هناك بقية يومهم وليلتهم يستريحون من التعب والنصب الذي أصابهم في هذا اليوم. * يوم الخميس 18 ربيع الأول (1338ه/10 دجنبر 1919م): انطلق المسير من عزيب الشعشوع إلى القصر الكبير بيسر لأن الطريق معبدة فكلها هضاب خضراء وأراض خصبة وعزايب، فوصلوا إلى المدينة في الساعة الواحدة بعد الظهر، وقرر الركب أن يقضي يوم الجمعة بالمدينة. * يوم الجمعة 19 ربيع الأول(1338ه/11 دجنبر 1919م): قضاه الركب في مدينة القصر الكبير، ونزل صاحب المذكرة عند الرجل الفاضل عبدالكريم الشاوش، وهو أخ لابن عمته السيد أحمد الشاوش من أبيه الذي استقبله بفرح وحفاوة بالغين وأكرم وفادته. * يوم السبت 20 ربيع الأول(1338ه/12 دجنبر 1919م): انطلق الموكب على الساعة العاشرة والنصف من مدينة القصر الكبير حتى وصل إلى الحدود الإسبانية الفرنسية الوهمية، وقد مروا بسلام فلم يطالبهم الحراس الإسبانيين بشيء، مكتفين بسؤالهم عن وجهتهم، لكن حين وصل الركب إلى حرس الحدود الفرنسيين، عاملوهم بجفاء وقسوة واحتقار وهو ما حز في نفس الكاتب، وجعل نار الغضب تضطرم في فؤاده. وبعد اجتياز غرباوة وصلوا إلى عزيب الدليرو الذي قضوا فيه ليلتهم. * يوم الأحد: 21 ربيع الأول (1338ه/13 دجنبر 1919م): ابتدأ المسير من عزيب الدليرو نحو مشرع بلقصيري. وبعد استراحة الغداء ابتدأ السير في طريق مستوية لا ترى فيها جبالا أو هضابا، ولم يضق صدر الكاتب مثلما ضاق في هذا اليوم، لأنهم يسيرون الساعات الطويلة وكأنهم لم يبرحوا مكانهم. وأخيرا تعب وضجر وصلوا إلى منطقة تسمى "جمعة الحوافات". * يوم الاثنين 22 ربيع الأول (1338ه/14 دجنبر 1919م): ابتدأ السير من (جمعة الحوافات) مع الساعة السابعة ونصف صباحا، و بعد مسير عدة ساعات وصلوا إلى جبال (باب تبوكة)المتصلة بجبال زرهون وواصلوا المسير إلى أن وصلوا إلى نزالة تسمى سهب الخرشف في الساعة الخامسة مساء. وقد قضوا هناك ليلة في غاية الصعوبة بسبب هبوب عاصفة من الرياح ونزول أمطار غزيرة أغرقت خيامهم وبللت حاجاتهم. * يوم الثلاثاء 23 ربيع الأول (1338ه/15دجنبر 1919م): خرج المسير من نزالة سهب الخرشف في الثانية عشر ظهرا، وسار في طرق موحلة، غاية في الصعوبة، تغوص فيها قوائم الدواب ويعوق سيرها. وبعد جهد جهيد ومشقة عارمة وصلوا إلى قرية "زكوطة" وقد سماها بعض الحمارين "ارصيفي" فنزلوا بها ولم يكن سافروا في هذا اليوم سوى ثلاث ساعات إذ وصلوها في الثالثة وخمس وأربعون دقيقة. * يوم الأربعاء 24 ربيع الأول (1338ه/16 دجنبر 1919م): خرج الموكب من زكوطة وسار في طريق ملتوية بين جبال وأوهاد ومزارع خصبة في غاية الروعة تسلب القلوب. واستراح في حوالي الواحدة للغداء، واستأنف المسير ولا حديث لأصحابه إلا أهوال اليوم الماضية وليلته، وتذكر نقائض بعضهم البعض والضحك على ما كانوا فيه إلى أن وصل إلى نزالة مكس وهي قرية قريبة من جبل زرهون التي قضوا فيها ليلتهم :" في حالة يعلمها الله من شدة البرد وهبوب العواصف". * يوم الخميس 25 ربيع الأول (1338ه/17 دجنبر 1919م): خرج الموكب من "مكس" وسار في طريق ملتوية نوعا ما إلى أن وصل إلى جبل "تغات" المتصل بجبل " زلغ" الجاثمة في حجره فاس. وكان من المقدر أن يدخلوا فاسا نهارا، لكن كثرة الأوحال في الطريق وانقلاب الطقس وهبوب الرياح الباردة حالت دون ذلك. وبعد مسير: " وصلنا إلى باب المدينة… فلما أردنا الدخول جاء المكلف بالباب عنا. فقيل له هؤلاء الطلبة جاؤا من تطوان لقراءة العلم بمولاي إدريس". وتقدم هذه المذكرات بعض الملامح عن شخصية الكاتب وما يتميز به من دقة الوصف والتوثيق، فكان يدون الأحداث بتواريخ وقوعها هجريا وميلاديا، وهو دأب جديد لم يكن مألوفا في تلك الفترة (تواريخ الأيام)، إضافة إلى ساعات الوصول أو المغادرة، فيقول مثلا أثناء وصوله لفندق عين جديدة: " وكان وصولنا بعد العصر، إذ لم يبق إلى المغرب إلا ساعة واحدة. وصلنا إليه في الرابعة وخمس دقائق". ومما وصف امحمد بنونة صعوبة الطريق فيقول مثلا في وصف خناق جبل الحبيب: "ووصلنا إلى مكان وعر شديد الوعورة، فقال الحاج محمد: هذا هو خناق جبل الحبيب. فدخلنا بين جبلين ونحن ننحدر بينهما كأننا نقطع الصراط. وما سمي خناقا حتى كان يخنق الإنسان بوعورته، وعندما كنا نجتازه كان الحمارة يقصون علينا كيف كان اللصوص يقطعون الطريق فيه. ويقتلون ويسلبون الناس ملابسهم وأمتعتهم. والحق أن من يرى هذه المسالك، وهذه الأجراف والكهوف والمخابئ يقدر خطورتها، ويتصور ما مر فيها من المصائب". كما وصف سوء الأحوال الجوية مثل تلك الليلة الشديدة الرياح، الكثيرة الأمطار : "وفي حوالي العاشرة هبت العاصفة تكاد تقلع الخيام بل والدنيا كلها، ثم ابتدأ المطر يترل بغزارة، ولكننا كنا نمنا مطمئنين في نوالتنا، فقد " ونينا" عليها وجعلنا حولها سواقي ليجري فيها الماء كيف يشاء. بيد أن الشيء الذي لم يخطر لنا أو لم تلق له بالا أن المكان الذي اخترناه ونزلنا به كان في منحدر ومعرض للسيول عندما تشبع الأرض من اشتفاف الماء. وهكذا كان، فقد مد أحدنا رجله، فإذا المياه قد دخلت علينا إلى النوالة، وإذا نحن نائمون على مسيل الماء الذي يجري بين مضاربنا، فصاح صاحبنا واستيقظنا كلنا فزعين، وإذا التوالة كلها غريقة في المياه المنحدرة من الهضبة المرتفعة، فحملني الحاج محمد بايسف وأخذني إلى خيمة للاقامة وسيدي محمد، حيث وجدتهما قاعدين وقد طار النوم من عينيهما إزاء هذه الزوبعة العاصفة. وأخرج الحمارون ومعهم الفقيه طنانة وسيدي علي على جميع ما كان في تلك النوالة، ونقلوه إلى المكان الذي بات فيه الحمارون، وكاسوه هناك بعضهم فوق بعض. وقد ابتلت مضاربنا وأطراف بطانيتنا وقد اشتد علينا البرد لدرجة جعلتنا نرتعش وتصطك أسناننا، حتى لقد قال الفقيه طنانة أنه يكاد يموت، بل أن الموت نزل به، وأن قبه يكاد يعصف في حنايا صدره يسابق العاصفة القائمة في السماء". ورغم هذه الصعوبات والشدائد التي كابدها الركب في مسيره، إلا أنها لم تكن تحول دون أن يسود الركب أجواء من المرح والدعابة بين ركابه مثلما حصل عندما وصل الركب إلى باب تبوكة، و وجد أن الفرنسيين عبدوا طرقا لتسير عليها السيارات، أو ليمر عليها السكة الحديدية، وقد استغل الركب شكوى الفقيه علي الذهبي من سير دابته عليها، وأرادوا أن يثيروا المشاحنات بينه وبين الحمارين فزعم الفقيه محمد طنانة أنه: "هو أيضا أن بغلته أتعبته بخطوها القافز. وأنه سيذهب إلى محطة للقطار قريبة، وسيسافر إلى فاس. وعندما يصل الحمار يقيم عليه دعوى ليرجع له نصف الأجرة، ودخلت الحيلة على سيدي علي المسكين، وصارا معا في خصام شديد مع الحمارين، ونحن عفا الله عنا نضحك ومزيد النار إيقادا، والحاج محمد بايسف يساعدنا. ولكن أحد الحمارين أخذ القضية بجد فاكتملت اللعبة. وظللنا ذلك اليوم نضحك، وقد نزل الفقيه طنانة من ظهر بغلته، ومثل نفسه أنه سيذهب إلى محطة قريبة وتبعه سيدي علي، بيد أننا مثلنا دور الوسيط واستعطفناهما، فرجع طنانة، فاضطر الآخر أن يرجع هو أيضا". ولا يخلو هذا الوصف من حدة و انتقاد شديد من طرف الكاتب فيصف مثلا مدينة القصر الكبير قائلا: "وبعد الغذاء خرجنا نتفسح في شوارع القصر. وهي مدينة صغيرة ضيفة الشوارع، وأهلها أقرب إلى البدو منهم إلى الحضر، وذهبت إلى المسجد الأعظم، وهو بسيط متواضع جدا. وكان الناس ينظرون إلينا بإمعان كأنهم لم يروا من الناس الأغراب قبلنا… و لم أجد في القصر شيئا يلفت نظري". إلا أن هذا لم يمنعه من تسجيل اعجابه بجمال الطبيعة وسحرها: " وسرنا في طريق ملتوية نوعا ما، إلا أنها جميلة كلها أشجار وأزهار برية الأرض كأنها زرابي مبثوثة، لم تترك لونا من ألوان عروسة المطر إلا ورسمته على الأرض". وتشير المذكرات أنه درس يوم السبت 27 ربيع الأول (1338ه/18 دجنبر 1919م) في جامع القرويين الفقه على العلامة أحمد بن الخياط، شيخ الجماعة بفاس، والألفية على الفقيه امحمد ابن الحاج. و كان يوم الأحد 28 ربيع الأول(1338ه/20 دجنبر 1919م) أول يوم ابتدأ فيه دراسته بالقرويين، فحضر نصاب المختصر على سيدي أحمد ابن الجيلالي، في قول المصنف: "وإن زال تغير نجس لا بكثرة مطلق…". وبعد انتهائه ذهب إلى نصاب أحمد بن الخياط، فحضر عليه المختصر، من قول المصنف: " وطمأنينة وترتيب أداء" من باب الصلاة، وبعد انتهائه ذهبت إلى نصاب سيدي امحمد ابن الحاج، فحضر عليه الألفية من قول الناظم: ككان كاد عسى لكن ندر *** غير مضارع لهذين خبر ويصف امحمد بنونة ما كانت تعرفه فاس من نهضة موسيقية ، بفضل مشاهير أعلام الملحون الذين كانوا ينشدون في الزوايا والأضرحة فيقول :" ثم ذهبنا إلى مولاي إدريس حيث زرنا أيضا، واستمعنا إلى اختتام البردة، وسمعنا بلبل المغرب الذائع الصيت الحاج إدريس الفاتحى برادة، وكذلك مولاي أحمد زويتن، ومولاي أحمد العلمي، وغيرهم ممن لا أعرفهم". ويبدو أن هذه الحاضرة بدأت تشهد تطورات حضارية بفضل انفتاحها على الآخر ودخول الأجانب إليها، فقد عملت السلطات البريطانية على فتح إدارة للبريد بفاس سنة (1892م) والتي شكلت في البداية ملحقة للمكتب الاستعماري لجبل طارق، وقد كان البريد الإنجليزي ممثل بدوره من طرف القنصل البريطاني أو أحد العاملين بالقنصلية. يقول امحمد بنونة: وبينما كان الإخوان يفرشون، كنت أكتب لوالدي رسالة أخبره فيها بوصولنا إلى فاس سالمين، وأصف له ما مر علينا بالطريق مع ذكر أسماء الترالات. وقبل الصلاة جاء سيدي عبد القادر وسيدي عثمان وأخذانا معهما. فوضعت الرسالة في البريد الإنجليزي بالقطانين". تبقى هذا المذكرات رغم بترها ذا قيمة علمية كبيرة فهي على الأقل ترسم لنا بوضوح الطريق الذي كان يقطعه طلبة تطوان للدراسة في فاس، وما يعانونه من شدائد وقسوة، رغم أنها لا تقدم للأسف صورة واضحة عن الحركة العلمية في الحاضرة الفاسية إلا نزا قليلا، لبترها كما سبق. ولحسن الحظ أن دراسته زامنت سفر الأستاذ محمد داود إلى فاس للدراسة هو أيضا فدون مادرسه وما أخذه عن شيوخ في كتابه: " على رأس الأربعين". العنوان: فهارس علماء تطوان (تطوان من خلال كتب التراجم والطبقات) للمؤلف: الوهابي منشورات باب الحكمة (بريس تطوان) يتبع...