حوار حصري.. عدنان إبراهيم (1): الأديان كمؤسسة اجتماعية تنكّرت كثيرا للإنسان منذ الإعلان عن حلول المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم، ضيفا لأول مرة على المغرب (يوم 1 يونيو)، أثير حوله الجدل بين مرحب ورافض، بسبب دعوته من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في إطار الدروس الحسنية المقامة في رمضان. وهذه ليست المرة الأولى التي يثار حوله الجدل، فالرجل، أينما حل وارتحل، واستمع إليه وشوهد، اعتاد أن "يخلخل" المناخ الديني السائد. اشتهر عدنان إبراهيم (مواليد 1966)، الفلسطيني الأصل والمقيم منذ تسعينات القرن الماضي بالنمسا، بكونه المفكر والخطيب "المستنير" بمظهره وأفكاره "المزلزلة والمزعجة"؛ فمن على منبره وداخل مسجده، تحدث بجرأة بالغة عن حياة الصحابة، وعن شخصيات دينية "مقدسة" لدى المسلمين. بالإضافة إلى إنكاره بعض المعتقدات الراسخة في التراث الإسلامي؛ كالمهدي المنتظر، نزول عيسى (ع)، أحاديث صحيح البخاري.. وموافقته للمقولات الفلسفية والنظريات العلمية؛ كنظرية التطور لداروين.. وغيرها. كل هذا، جلب عليه وابلا من الانتقادات، لكن، ورغم ذلك، فالرجل الذي درَس الطب والعلوم الإسلامية بجامعة فيينا، استطاع في المقابل أن يحيط علما ودراية بمجالات معرفية وفكرية شتى، شهد له بها ذوو الاختصاص. وبمناسبة مقامه بالمملكة، خص عدنان إبراهيم، "تيل كيل عربي" بحوار مثير ومطول (3 أجزاء)، ولأول مرة بشكل حصري مع منبر إعلامي مغربي، تناول فيه مواضيع فكرية ودينية، لا يزال بعضها يحدث إشكالا داخل الأوساط الدينية، والتي من بينها: الحريات في المجتمع الاسلامي، صراع التراث والحداثة، العلمانية، العنف والتطرف والإسلام المعتدل، أوهام الإسلام السياسي، الحركات الإصلاحية.. وغيرها من المواضيع التي يدلي عدنان إبراهيم برأيه فيها بشكل مفصل ودقيق.
الجزء الأول (1): مرحبا بك دكتور في المغرب، وشكرا على قبول إجراء هذا الحوار. أولا، كيف تعرّف نفسك في ظل الصراعات الفكرية التي تعيشها ؟ رجل تخومي، يعيش بين ثقافتين كبريين، ينهل منهما، و يسعد بهما، على أنه مدرك لتحيزاته، وتحيزاتهما. يرى جذوره أعمق من أن يتنكر لها، فهو يسعى جاهدا إلى أن يعيش بالثقافتين كلتيهما، فالأولى جذوره التي بدونها يذوي و يفنى. والثانية فضاؤه وبعض غذائه، التي يستمر بها شاهدا على عصره. يؤمن بعمق بأن دينه وتراثه لم يستنفدا أغراضهما، وأنهما لو أحسنت قراءتهما مستعدان وبكثير من الجدارة على الإسهام المقدور في إثراء العصر، بل وفي إنقاذ الإنسان، وتصويب مساره. الحقيقة عشقه، والوفاء لها عبادة لله وقربى إليه، وهو يرى أن نشدان هاته الحقيقة، عملية ممتدة مستمرة، ويرى في البحث عنها روعة لا تقل عن روعة مكافحتها (النظر إليها كفاحا) وتمليها، هذا إن جاز أصلا أن تكافح مرة وإلى الأبد. وإذ كان كذلك فلا جرم أن يصطدم كثيرا بمن يريدونه وفيا لأطر جاهزة، وبرامج ناجزة، يتغيا بعضها المصلحة لا المعرفة، والهيمنة لا الاكتشاف. يفكر إلى حد بعيد بصوت مرتفع، وهو إذ يفعل إنما يثير تساؤلات أكثر مما يقدم أجوبة، يحرك بها الماء الراكد، و يزرع علامات الاستفهام، هنا وهناك، ليعالجها رفقاء درب المعرفة، كل على طريقته ومن زاويته. قضيت سنين طويلة في الفكر والدعوة، و في العقد الأخير، أثرت بشكل واسع على عدد كبير من المسلمين. لكن ينتقدك الكثيرون بكون أطروحاتك ومواقفك الفكرية، أضحت متقلبة ومتناقضة أحيانا؟ على كل حال، يبقى النقد علامة مؤكدة على صحة المشهد الثقافي وتعافيه. لكن بكل الصدق لا أرى في أكثر ما وجه إليّ وبالطبع إلى غيري مما يزعم فيه أنه نقد، أكثر من هجاء خالص. وبين أغراض الهجاء وأغراض النقد بون جدُّ بعيد. ولا يخفاكم أن صلتنا كمسلمين في هذا العصر بالنقد بمعناه العلمي المحترم لا تزال شديدة الوهاء، بحيث يمكن المعادلة بين زعم النقد وإرادة النقض، فالنقد مجرد عنوان جميل يُتوسل ذريعة لمقصد قبيح. أما كون أطروحاتي أضحت متقلبة أو متناقضة، فالأمر يتوقف على تحديد المقصود بهذه الألفاظ. من جهتي أرى أن الوفاء للمبادئ والمقاصد مع تغيير الموقف وزاوية النظر، تغيرا محمودا، ومرونة مطلوبة، في حين أراها انتهازية ونزوية الحالة المعكوسة. هل لا يزال عدنان إبراهيم يؤمن بأولوية الإنسان على الأديان؟ فيما يتعلق بأولوية الإنسان على الأديان، فإذا سلمنا بأن الأديان وأعني هنا الإلهي منها على وجه الخصوص إنما كانت لأجل الأرض وعمّارها، لا لأجل السماء، فالسماء غنية عن الأرض بالمطلق، وقد تبدو العبارة متناقضة، فما مأتى الأولوية هنا، والحال ألا تعارض بين الأديان والإنسان، تماما كما لا تعارض بين المريض و الدواء، ولا بين الجائع و الغذاء، ليُبحَث بعد ذلك لمن تكون الأولوية بينهما. لكن بالالتفات إلى أن المقصود الممارسة البشرية للدين، فهما وتطبيقا، يغدو الأمر أكثر من واضح. فالأديان المنظمة Organized religions عبر التاريخ، والتي حولت الدين إلى مؤسسة اجتماعية، الدين فيها نظام اعتقاد محدد أقرب الى الإنغلاق، أو الدوغما، وطقوس منظمة، وقوانين مكتوبة Codification للأدوار والممارسات، ومعبد وكهنة، قد يتسم لكن ليس بالضرورة بهيراركية (نظام هرمي) صارمة. الأديان بهذا المعنى تنكرت كثيرا، بقدر أو بآخر للإنسان، وبدّت مصلحة رجال الدين، ومصلحة السلطة الرسمية على مصالح الشعوب، وتجاوز الأمر إلى تضحية ملايين البشر، تحت شعارات خادعة في سبيل إرادة الهيمنة والمصالح الضيقة لفئات محدودة.
بهذا المعنى لا تردد لديّ فيما يتعلق بضرورة تأويل الدين على مستوى النص المؤسس بالذات، و الانتخاب من والتحيز للقراءات من التراث الديني، بما يجعل الدين قوة معنوية متحالفة مع الإنسان بأوسع معانيه. عنيت الإنسان كنوع، لا كأتباع حصريين أو مفتوحين لهذا الدين أو ذاك، وإن مثّلوا نصف البشرية، أو حتى ثلاثة أرباعها. فتضحية الأفراد في سبيل العقيدة المحضة ممارسة بالغة الإجرامية، مهرت فيها النظم الشمولية عبر التاريخ، الأمر الذي يؤذن حال تكراره باسم الدين بإدخال الدين في محاق نهائي، في عصر تتراكم فيه قناعات كونية مرفودة بممارسات واسعة بأهمية الفرد وقدسيته. (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({}); اشتغلت كثيرا على موضوع الحرية، بما في ذلك أطروحتك للدكتوراه، وأنت تعيش في بيئة ومناخ "ديمقراطي وحر". كيف ترى ممارسة الحرية في السياق العربي و الإسلامي؟ أو بشكل أدق؛ هل يحق لغير المسلمين، في إطار الحرية، أن يمارسوا شعائرهم و طقوسهم في البلاد الإسلامية، بما فيها حقهم في الدعوة إلى دين آخر علنا؟ في العقود الأخيرة تردّت للأسف الشديد الممارسة المسؤول عنها أعلاه بشكل مقلق للغاية، و ذلك بفعل صعود تيارات متشددة بالغة الحصرية والضيق في منظورها الفكري الديني. وهو على كل حال أمر تكرر في تاريخنا في محطات كثيرة، على أنه لم يبلغ من الكثرة و الشيوع بحيث تسودّ منه صحائف هذا التاريخ، بل ظل في العموم في حكم الإستثناء من القاعدة العامة التي طبعت تاريخنا بهذا الخصوص، كما شهد بهذا غير واحد من غير المسلمين، مثل توماس آرنولد، و جورج قرم، و أمين معلوف. لكن اللافت في الموضوع، أن ثمة نمطا ظل يتكرر، وبالتالي يتأكد عبر تاريخنا بطوله، وهو الأمر الذي انطبق على عصرنا هذا أيضا دونما فرق؛ كلما كان المسلمون أقوياء واثقين، ثقافيا وعسكريا، أبدوا درجة عالية من التسامح و التساهل، وحين يضعفون و يتراجعون ماديا ومعنويا، يتقلص بينهم ظل التسامح وترين على المشهد روح التعصب والحصرية. والنظر الحر في النصوص المؤسسة للإسلام يعطي بغير إرهاق أو تكلف، أن حقوق غير المسلمين في ممارسة شعائرهم و التبشير بأديانهم والدفاع عنها، مكفولة مصونة، وهو الأمر الذي لا يتردد للأسف بالقدر الكافي، ولا حتى قريبا منه، في أدبيات المسلمين المعاصرة. رغم أن القرآن الكريم مليء بالآيات التي تحاجج أهل الكتاب مثلا، وتعرض لوجهات نظرهم؛ ومن هذا آيات آل عمران التي وثقت محاججة الرسول عليه أفضل الصلاة و السلام لوفد مسيحيي نجران. و من الذين صرحوا من المعاصرين بحق غير المسلم في التبشير بدينه والدعوة إليه، أبو الأعلى المودودي في رسالته عن حقوق أهل الذمة عام 1948، رغم كونه أحد كبار الأصوليين المعاصرين، وإسماعيل راجي الفاروقي. أما تاريخنا فهو غاصّ بوقائع مناظرات شيوخ المسلمين لرؤوس المسيحيين واليهود وسواهم من أهل الأديان. وقد كان بعض تلك المجادلات يجري في مجالس الخلفاء والوزراء، كمناظرات طيموثاوس الأول Timothy I في حضرة المهدي العباسي، و مناظرة أسقف حران ثاودوروس أبي قرّة مع كلثوم بن عمرو العتّابي في حضرة المأمون. من المثير أن المخالفين كانوا يتوسعون و بحرية في عرض آرائهم الرامية إلى تفنيد القرآن و تزييف نبوة النبي، ولهم كتب معنونة بجرأة بالغة بهذه المقاصد، من مثل (تفنيد القرآن) Refutation of the Quran لأبي نوح الأنباري، ومقال الرد على العرب لديونسيوس يعقوب بن الصليبي، إلى كتب يحيى بن عدي، وبطرس البيتراسي، وإيليا النصيبني، وقبل هؤلاء جميعا كتابات يوحنا الدمشقي. كإمام ورجل مثقف داخل المجتمع الأوروبي، المتسم بالحداثة، تحاول هناك إظهار الجانب التنويري من التراث الإسلامي. هل استطعت أن تجد مخرجا و صيغة "سحرية"، إن جاز التعبير، للخروج من أزمة "الصراع بين التراث والحداثة"؟ سأكون مباشرا وصريحا، فأقول: على المستوى الشخصي لم أعد أشعر في آخر عقدين تقريبا من حياتي بهذه الأزمة. وذلك بفضل اقتناعي التام المبرر دينيا وفقا لقراءتي للنص بجملة قضايا، رفعَتْ عن عقلي وعن ضميري معا الحرجَ الذي يمكن أن يعانيه مسلمُ العصر، وخصوصا من يعيش في مجتمع غربي حر. في رأس هذه القضايا، إيماني بأن الإنسان هو أولوية الأولويات، و بأن الحرية هي أولوية الإنسان، و في رأس الحريات حرية التفكير والإعتقاد وحرية التعبير، ثم بجملة حقوق الإنسان المعروفة. كما أني توصلت إلى بناء منظور شديد الإتساع فيما يتعلق بمصير غير المسلمين، يبرأ من الحصرية، ويسمح بإعادة اكتشاف النص القرآني في هذا الخصوص على نحو معجِب، لجهة انفتاح هذا النص وعمق إنسانيته وواقعيته. وعلى صعيد الأحكام الشرعية العملية تأكد انحيازي إلى الروح والمقصد، خصوصا في أبواب المعاملات وما يلتحق بها، بما مكنني من التعاطي مع صور الأحكام بطريقة أكثر مرونة وعملية، تقوم على إيلاء السياقات الأهمية اللائقة بها، لا لجهة تنزيل الأحكام فقط، أو ما يعرف بلغة أصول الفقه بتحقيق المناط، بل أيضا لجهة سن تلك الأحكام ابتداء. وفيما يتعلق بمصادر المعرفة، لم أقع ضحية نزعة علموية ضيقة، يعاني منها كثير من الحداثيين، ولا بالمقابل ضحية نزعة نصوصية مغالية، سطت بكثير من الأصوليين، تبخس العلم وتستعيض عنه بالنص، مصدرا مطلقا للحقيقة الشهودية، بل اعتمدت منظورا مركبا، يجمع بين الحس والعقل، والوحي والحدس، كل في مجاله، على طريقة الأروقة المتمايزة Non-overlapping magisteria، التي انحاز إليها الراحل ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould في عمله الشهير. الأمر الذي زودني بالشجاعة الكافية لأعيد قراءة النص في ضوء العلم، فيما هو أساسا من اختصاص العلم، ونفى عني في الوقت نفسه الحرج في تسليمي للنص، في كل ما هو أساسا من مختصات النص. وهكذا لم أغترب عن عصري، ولم أتنكر لمعتقدي الديني. وعلى الأرجح، ستثير مثل هذه المقاربة، بما تبدو عليه من يسر ووضوح، تساؤلا بخصوص ذلك الكم الهائل من الأدبيات حول النزاع بين التراث والحداثة في فكرنا الإسلامي الحديث والمعاصر. ومن رأيي أن ذلك يعزى جزئيا إلى مغالاة كلا من الطرفين بما عنده، التراثيين والحداثيين، ما يجعل الشقة بينهما تزداد بعدا. تلك المغالاة قد تعزى بدورها إلى الإخفاق في تلمس جوهر الأمر، فإدارة العصر بفهوم التراث جملة وتفصيلا، عملية محكومة بالفشل، كونها تهدر السياقات، وتتنكر لما راكمه الإنسان عبر الزمن من مكتسبات علمية وفكرية، بالقدر نفسه الذي تفشل به عملية التنكر للتراث والرغبة في الإستغناء عنه، كونها تتنكر لروح الأمة وتطمس أقوى مشخصاتها. (..)