كلما أمسكت جريدة بين يداي تذكرت بائع الجرائد الخمسيني الذي يجوب المقاهي سعيا منه في إقناع الجالسين على اقتناء واحدة، رجل مسن لا يكاد يقوى على المشي، لا يخاطب الناس و لا يحاول محادثتهم.. فقط يلف حول الكراسي حاملا عددا متواضعا من الصحف و المجلات يعتنق الصمت و الأمل ... في كل مرة أراه فيها أتساءل ما الذي يرهق كاهله و يدفعه إلى الخروج لجمع درهيمات لا تكفيه حتى لوجبة غذاء... ؟! هل له أسرة يعيلها؟ و كيف بمقدرته إعالتها و ربحه اليومي لا يستطيع أن يؤمن به قوته...!! تماما كالأربعيني الذي يبيع الذرة و الحلوى في الكورنيش و الرجل المنهك الذي يحوم حول المصطافين صيفا يحلي جلستهم بمكسرات و حلويات علها تلبي طلبات أسرته الصغيرة التي تنتظر عودته كل مساء...؛ هم أناس يشبهون بعضهم البعض في اصرارهم على كسب القوت بعرق جبينهم و على تحملهم مشاق الحياة دون تسول أو تذلل... بالرغم من علمهم أن هامش الربح متدني الا انهم لا ينفكون عن محاربة الحاجة و التصدي لها ..
لن أنسى طيلة حياتي طفلا في عمر الزهور يحمل بين ذراعيه بعض المناديل الورقية يقف منبهرا ببناية في طور البناء، يتأمل البنائين وهم في الأعلى يشتغلون باتقان أحدهم يرسل دلوا إلى الأسفل معلقا بحبل متين و آخر يملأ الدلو و يعيد إرساله إلى الأعلى بخفة بينما الثالث لا يتوقف عن طلي الأسمنت حيث يقف... استمر الطفل بالمشاهدة مطولا وهو يتنقل بعينيه الصغيرين متابعا حركات العمال إلى أن قطع تواصله البصري أحد رفقاءه في العمل مخاطبا له:" هيا لمادا توقفت؟" أجابه باندهاش :"أين يدرسون حتى يتمكنون من البناء هؤلاء؟!" أدرك رفيقه بسرعة كمن كان يعلم السؤال مسبقا و كمن يفهم بعالم البناء... : " إن بعت أكبر عدد من المناديل ستتمكن من ولوج المدرسة و بالتالي ستتعلم البناء.. هيا أسرع لم نبع شيئا هذا اليوم! " دفعه إلى الأمام و استمر بالمشي..، حافظ الصغير على وقفته و كأنه يحاول الاستيعاب قبل أن يتبع ناصحه..! ؛ كنت قبل تلك اللحظة بقليل انتظر التاكسي الذي تأخر بالمرور و قد خرجت للتو من العمل متذمرة، أتمتم في صمت: أحتاج الى سيارة أنا.. هل سأستمر على هذا الحال دوما؟ ضغط العمل و ضغط المواصلات شيئ لا يطاق... لأستقل سيارة الأجرة وقد أعطاني الصغير درسا في الصبر و المثابرة. لكل هدفه و لكل حلمه فبائع الجرائد لن يخرج إلى الشارع كل صباح إن لم يكن له سبب يدفعه إلى ذلك و عاشق البحر صاحب الحلوى أيضا. لكل أحلامه الصغيرة و أمنياته البسيطة الا أن هناك من يتمنى قضاء نهاية الأسبوع في جزر المالديف و هناك من يتمنى قضاء ليلة رضى عند إضافة السمك و الطماطم إلى وجبة العشاء بدل البيض بالطماطم المعتاد.. وهناك من يحلم بجلسة مساج فاخرة على الطريقة الصينية و هناك من يحلم باقتناء صينية لحمل الكؤوس المعدودة بدل انزالها كل يوم حافية على سطح الطاولة المهترئة... ؛ لم يختر أحد حياته و لا ظروفه هو القدر وحده يتحكم في تسييرنا و نحن لا يتجاوز دورنا منفذين للاحكام.. نتميز عن بعضنا البعض بالعزيمة و الإرادة في تغيير الواقع إلى الأفضل.. هي حياة سنعيشها كلنا مع اختلاف طريقة العيش من رجال تزوجوا الكرامة و رجال اختاروا التذلل لآخرين لا يمتازون عنهم الا ببعض الصبر و بعض الحظ.