رأيت فيما يرى النائم خيرا وسلاما، مسؤولا جامعيا ومعه نائبه واقفين داخل حقل شاسع وحولهما مجموعة من الفلاحين الفقراء والصناع التقليديين وفئة أخرى أظن أنها من قطاع الصيد البحري التقليدي. وكان المسؤول الجامعي يتكلم بصوت مسموع ومفهوم، وهؤلاء الناس ينظرون إليه نظرة استغراب وكأنهم يرون شيئا لم يألفوه. كان هذا المسؤول الجامعي خيرا وسلاما، يقول لهم: أيها الناس، إن الجامعة جاءت إليكم اليوم لتطلب رأيكم ولتفتح معكم نقاشا مسؤولا وجادا عن كيفية تحسين منتوجكم الفلاحي وإشراككم فيما تتطلع إليه الجامعة، كما سنبحث معكم عن المنتوجات الجديدة ذات المردودية المرتفعة، ونفتح معكم حوارا حول الثقافة المائية والتنمية البشرية وموضوعات أخرى، لأن هذا كله يمكن تطويره بتنسيق مع الجامعة وفي إطار البحث العلمي. فمن كان له سؤال أو استفسار فليتقدم. تقدم شيخ كبير وقال: من فضلك ماذا تقصد بالجامعة؟ وبعده تقدمت امرأة من قطاع الصناعة التقليدية، توحي نظراتها بجدية كبيرة. وقالت: وماذا يعني "ستطلبون رأينا"؟ فمنذ زمن بعيد ونحن هنا ولا أحد طلب رأينا. وبعدها تقدم شاب قوي يمثل قطاع الصيد البحري التقليدي وقال: ماذا تقصد بالحوار؟ وماذا تقصد بالبحث العلمي؟ أجاب المسؤول الجامعي خيرا وسلاما، وهو كله ثقة فقال: نعم هي مسؤوليتنا نحن-الجامعيين- الذين لم ننفتح عليكم من قبل. وبقينا في برجنا العاجي. ونعترف لكم الآن أننا كنا نعتمد على الدراسات التي نقوم بها خارج المغرب. وبدلا من أن نفتح نقاشا دائما ومباشرا معكم أنتم المتواجدون بجانبنا دائما، كنا نذهب إلى "فيلاندا" و"إيطاليا" و"فرنسا" وغيرها.. لكي يعطونا معلومات عنكم وكيفية التعامل معكم. لهذا أقول لكم ما يلي: لقد قررت الجامعة ابتداء من الآن أن تتعامل معكم مباشرة، يعني مع الفلاح المغربي والصانع المغربي ومع كل ما هو شعبي "بلدي"، بمعنى آخر سنتعامل مباشرة مع المجتمع المغربي الحقيقي بدون وسيط أجنبي، الذي يربح أموالا طائلة مقابل هذه الوساطة. وسنتعاون، نحن بمعرفتنا وخبرتنا وأنتم بتجربتكم وجهدكم لتحقيق تنمية بشرية مغربية حقيقية، كما فعل الأجداد عبر العصور حيث كان العالم دائما بجانب الفلاح والتاجر والصانع والحرفي. وخلال كل هذا الوقت من الحوار كنت أنا، خيرا وسلاما، وراء الجمع أرى في وجه المسؤول الجامعي بتمعن، وبدا لي أنه صادق في ما يقول. وكلامه يصل إلى القلب. بعد ذلك تفرق الجمع وبقيت أنا وحدي أنظر إلى الحقل الشاسع، وإذا بالأرض بدأت بالاخضرار وارتفع القمح بسرعة، وكثرت أشجار الزيتون والأركان ومنتوجات فلاحية جديدة باهظة الثمن كالزعفران العربي والخيزران والفرولة ومنتوجات أخرى لم أر مثلها قط. أما منتوجات الصناعة التقليدية فبدت في حلة جديدة وكيفية تلفيفها وتسويقها أصبحت مقبولة جدا. أما لمساتها الأخيرة فهي تبهر الزوار. كما أن الصيادين التقليديين أصبح الاهتمام بهم يفوق الاهتمام بأصحاب الفن الرديء. وانعكس ذلك على منتوجهم البحري بشكل كبير، وسررت بهذا سرورا كبيرا خصوصا عندما بدأت أرى من حولي أناسا بسطاء من بني جلدتي يحبون أرضهم وبلدهم، ويتحولون إلى رجال أعمال حقيقيين، وكان للجامعة المغربية فضل كبير في ذلك. وإذا بجرس الساعة يوقظني من هذا الحلم الجميل. استيقظت بصعوبة وذهبت إلى مقر الجريدة، ومن حسن الصدف وجدت في طريقي المسؤول الجامعي. قدمت له نفسي وما زالت فرحة ذلك الحلم تجري في عروقي، وقلت له: لقد رأيتك هذه الليلة خيرا وسلاما، مع الفلاح المغربي والصانع المغربي. لقد رأيتك مع المجتمع المغربي الحقيقي. أجابني بصوت خافت وببرودة تامة وكأنه مشغول بأشياء أخرى وقال: ماذا تقصد بالفلاح؟ وماذا تقصد بالصانع؟ وأبدى رغبته في التحول إلى الرصيف الآخر وكأنه يريد التخلص مني بسرعة، واسترسل في كلامه قائلا: إن الذي رأيته كابوسا وحلما مزعجا لاتحكيه لأحد، فالأحلام المزعجة لا تحكى مخافة أن تتحقق. حينها قررت أن أحكي حلمي هذا وجميع أحلامي المزعجة إلى كل من استطعت أن أصل إليه، لأن هذا أعاد لي بعضا من الآمال، ولو على مستوى الحلم، فهل سنحرم حتى من الأحلام؟!!! من كتاب "شطحات جامعية" لكاتبه عبد الوهاب إيد الحاج